“مدينة لا توجدُ فيها دار سينما ولكنّها تعرضُ الأفلامَ أسبوعياً؟! أيةُ أحجيةٍ هذه؟”
ضحكت صديقتي على الطّرفِ المقابلِ من الهاتفِ، ورأت في هذه الأحجيةِ حجّةً قويّةً كي آتي لزيارةِ المدينةِ علّ المعجزةَ التي خصّ الله بها قومَها تخلّصني من مرحلةِ الرّكودِ التي أمرُّ بها
اللاذقيّة… حتى الآن لا أعرفُ كي ألفظُ الحرفين المُتتابعين في الوسط، ضحكت صديقتي – التي لا تبرعُ في شيءٍ قدْرَ براعتِها في الضحكِ – واقترحَت أن أدعوها باسمِ “لاوديسا” كما كانت تُدعى قديماً
يا له من اسمٍ رومانسيٍّ! لمَ لم يحافظ أهلُها عليه؟ من يتخلّى عن اسمٍ رومانسيٍّ كهذا يستطيعُ فعل ما هو أفظع، كعدمِ وجودِ صالةِ عرضٍ مثلاً
لقد مضَت شهورٌ لم تراودني خلالها فكرةٌ واحدةٌ تصلح لتكونَ عيّنةً مطواعةً في مختبري السينمائي، ركودٌ ذهنيٌّ، وفكريٌّ، وصوريٌّ، وبصريٌّ، والأهم من ذلك كلّه هو الركود الروحي الذي يُعزى إليه السبب الأقوى لزيارةِ “لاوديسا”، زرتُها مدينةً صغيرةً، وغادرتُها قِبلةً ومعبداً

هو شابٌّ في مقتَبلِ العمرِ مسؤول عن اختيار الأفلامِ لِما يملكُه من مخزونٍ معرفيٍّ سينمائيٍّ لا يُستهانُ به، وقد تيقّنتُ من ذلك عندما عدّدت لي صديقتي أسماء الأفلامِ التي تمَّ عرضُها في المقهى، أمّا سبب لقبِه بـ”الماستر” فذلك تيمّناً بفيلم “ذا ماستر” الذي استلهما من أحدِ مشاهدِه كثيراً من الطُّرفِ والتعليقاتِ المُضحكة، ولم يستغرق مني الأمر أكثر من بضعِ دقائق حتى أستنتجَ أنّ صديقتي وحدَها من تناديه “ماستر” ولا يعلمُ البقيّةُ بهذا اللقبِ
لا أدري لمَ معرفتي بذلك جعلت الفريمات تنبضُ في عروقي، لا أستطيعُ وصفَ ما أحسُّ به عندما تتكلم معي المعطياتُ حولي بلغةٍ سينمائيّة إلا بعبارةِ: “الفريمات تنبضُ في عروقي”، وتلك المعلومةُ الصغيرةُ بشأن لقبه ما هي إلا شريطٌ قصير من بَكرةِ ما سيأتي لاحقاً
مقهى بنفسجيّ اللون مطليٌّ بالجرائد، نعم… جرائد تغطي النوافذ كالطلاء مانعةً تسلّلَ آخر خيوطِ الشمسِ الغائبةِ مما يخلقُ جوّاً يحاكي ظلمةَ صالةِ العرضِ، وجهازُ إسقاطٍ على إحدى الطاولاتِ يُسقطُ الفيلم عن شاشةِ الـ”اللاب توب” إلى شاشةٍ تتوسّطُ تلك الجرائد ليبدأ بعدها السحرُ بالانسكابِ على المقاعدِ والأرائكِ المصفوفةِ كما مقاعد أيّةِ صالةِ عرضٍ
الفيلمُ أمامي، صديقتي إلى يميني، ومقعدٌ فارغٌ إلى يساري لكن سرعانَ ما ملأه “الماستر” بعد أن جاء مرحِّباً بالفردِ الجديد؛ حضرتي
“صديقي مخرجٌ، يفهمُ العربيةَ ولكن لا يتكلّمها، أصرّيتُ عليه أن يزور اللاذقيّةَ أو لاوديسا كما يحبّ أن يدعوها ويرى المعجزةَ التي تقعُ كلّ خميس”
ضحكَ “الماستر” ثم صافحني بحرارةٍ وثقة وهو يهزُّ رأسه الذي تعلوهُ قبعة كلاسيكيّة تخالفُ ثيابه التي تبتسمُ فيها شخصياتٌ كرتونيّةٌ، وبعدها سألني إن كنتُ قد شاهدتُ الفيلمَ سابقاً وعن رأيي حول أعمال المخرجِ وغيرها من الأسئلةِ الروتينيّةِ التي تنهالُ على مسمعي حينَ يعرفُ الشخصُ أمامي أني مخرجٌ والأجوبةِ غير الروتينيةِ التي أثقبُ فيها أذنيهِ جرّاء صدمتهِ بثقافتي واطّلاعي، ولكن لا… ليس هذه المرة
كان “الماستر” لا يقلُّ عني سعةً ومعرفةً، أنا من صُدم اليوم حتى شعرتُ أنّ شخصيّةَ “باباي” على “تيشرته” مدّت يدها إلى الأعلى ورفعَت القبّعة عن رأسه احتراماً لِما فعله بي
لم أشاهد الفيلم، كانت هناك معطياتٌ حولي تحاولُ التكلمَ معي بلغةٍ سينمائيّة وأنا ما عليّ إلا أن أسمحَ للضوءِ الأحمر بالانتشار في زوايا المختبرِ داخلي:
متفرّجو الصفّ الأولِ من المقاعدِ عليهم أن يزحلقوا ظهورهم إلى الأسفلِ قليلاً كي يتمكّنَ متفرّجو الصفوفِ الأخرى من رؤيةِ الترجمة وذلك نظراً لعدمِ وجود مدرّجات تمكّنُ الجميع من الرؤيةِ بسلام واستقامةِ ظهورٍ، فمن كان يظنّ أنه محظوظٌ بجلوسه في الصفّ الأولِ فهو حتماً لا يعلمُ ما ينتظرهُ من منعطفاتٍ حادّة في حبكةِ فقراتهِ
دخانُ النراجيلِ الذي يُكسبُ أحداثَ الفيلمِ بُعداً دراميّاً مهما كان نوعُه، وقد علمتُ لاحقاً أنه تمّ منعُ النراجيلِ لِما سبّبتهُ من تصعيدٍ دراميٍّ بين المتفرجين بين (مع وضد)، فمُنعت مع الإبقاءِ على تدخين السجائر كحلٍّ إخراجيّ يُرضي الجميع
ذلك الثنائيّ الجريء الذي سلبَ الشرفَ من المقاعد الأخيرة في تلبيةِ متطلّباتِ الظلام السينمائي من عناقاتٍ وأحضان، فشرعا يمنحان هذا الشرف للصف الأولِ
تلك الفتاة الني انسحبت من منتصفِ الفيلم وهي توزّعُ نظراتٍ ملؤها الامتعاض قوبلت بامتعاض صديقتي الطّفولي المُحبّب: هذه الفتاةُ لا أعلمُ تركيبة دماغها، لطالما تفعلُ هذا، لمَ تأتين أصلاً إن كنتِ ستخرجين من منتصفِ الفيلم؟
تلك الأبصارُ التي ظلّت مشدودةً بشغفٍ منقطعِ النّظيرِ بعد أن صدمَ عجوز من المتفرّجين جهاز الإسقاطِ وهو يخرجُ عبر الصفّ كي يجيبَ على هاتفهِ، لترتسمَ الشاشةُ على الجدارِ دون أن يؤثر ذلك على سيرورةِ عملية الفرجةِ
ينتهي الفيلمُ ويخرج “الماستر” بمشيةٍ متبخترةٍ ليسأل سؤاله المعتاد -كما أخبرتني صديقتي-: “من أحبّ الفيلم ومن لم يحبّه؟”
تسودُ لحظاتُ صمتٍ ثم تتزاحم الأجوبة، لكنّ تعليقاً من إحداهن يُفقدني تركيزي على النقاش: “اخلع القبعة، إنها لا تُناسب ملابسك”
علمتُ على الفور أنّ تلك الفتاة لا تمتُّ للسينما الحق بصِلة، ربّما جاءت برفقةِ أحدٍ ما، أو بسبب ضجرِها من ملازمةِ المنزل أو العمل، كلّ الاحتمالاتِ واردةٌ إلا احتمال أنها متفرّجة مخضرمة للفنّ السابع
ينتهي الفيلمُ ويستمرّ النقاش حتى يبدأ رجلٌ ذو نظارات طبيةٍ، ومظهرٍ هادئ رزينٍ بالتكلّم، تشخصُ الأبصار وترهفُ الآذان وكأنه يُلقي بتعويذاتٍ سحريّة بدلاً مما يقوله من نظرياتٍ فنية وفلسفيّة متعلقةٍ بالفيلم، الحقّ لديهم…إنه سحرٌ خالص يجعلُ “باباي” يخرجُ من كلّ “تيشرتات” العالم كي يقفَ أمامي ويستعرضَ عضلاتِه بالوضعيات كلها ثم تنفجرُ كما تنفجرُ البوالين ويغرق في نوبةِ ضحك وهو يشيرُ بإصبعهِ إليّ
ينتهي الفيلمُ، وأنظرُ إلى ساعتي مصدوماً بسبب تأخرِ الوقت، تضحكُ صديقتي مستغربةً عدمَ علمي بأن الوقتَ سيتأخرُ، فالفيلمُ لا يبدأ مطلقاً في الساعةِ المحدَّدةِ لعرضهِ لأنّ “الماستر” ينتظرُ قدوم جميع المتفرّجين، وهذا ما حدث اليومَ أيضاً
“كيفَ لم تنتبه إلى تأخر العرضِ لربع ساعةٍ وأنت الأجنبيّ الذي يمشي وفقَ ساعةِ بيغ بين؟!”
أحافظُ على رجعِ صدى ضحكتها في بالي، أصغي أكثر إلى لغةِ كلّ ما سلفَ من معطياتٍ، إنها تتكاتفُ، تتوحد، تنصهر لتشكّلَ تلك العيّنة المطواعة في طريقها عبر أوردتي إلى مختبري، أمسحُ الكادر بنظرة بانورامية، نعم… إنها الفريمات تنبضُ في عروقي بل أكثر من ذلك، الفيلمُ كله ماثلٌ أمامي، والفيلم الذي كان داخل الشاشة أصبح مشاهداً لذلك الفيلم الماثلِ أمامه، إنها سينما خالصة، سينما عن “سينما لاوديسو” حيثُ لا يبدأ العرض قبل وصولِ المتفرّجين جميعهم
*
رغد جديد، طالبة ماجستير لغة عربية قسم اللغويات وكاتبة قصة قصيرة