ثلاث حكايات : صرخة احتجاج على الواقع

خاص فنون مسرح

أسرة التحرير

صوت انفجارٍ عنيفٍ يهزُّ المسرح وينتهي العرض حيث بدأ. في القطار الذي نزل منه الممثلون في مشهد البداية وهم يرددون عباراتٍ توضح أنهم كانوا يودون إقامة العرض في الشارع إلا انه وبسبب ظروفٍ معروفةٍ تعذر ذلك فأحضروا الشارع بمن فيه من جمهورٍ إلى المسرح ليقدموا العرض مبتدئين عملهم بجملة “نحن ممثلون” 

مسرحية ثلاث حكايات المأخوذة عن نصٍّ للكاتب الأرجنتيني اوزوالدوداركون، والذي أعده الفنان أيمن زيدان مع محمود الجعفوري، وبطولة قصي قدسية، حازم زيدان، لمى بدور، مازن عباس، وخوشناف ظاظا شغلت مسرح الحمرا في دمشق لعدة أيامٍ متواصلةٍ وفي كلّ يومٍ حظيت بعدد حضورٍ لا يُستهان به 

ليس سهلاً ان ترتدي زيّ المهرج لتؤدي دوراً يقصُ على الناس واقعاً مبكي، يُدمي القلوب ويُلامس واقع الطبقة العاملة الفقيرة والتي هي على استعداد تامٍ للقيام بأي شيء لمواجهة صراع مع الحياة وكل ذلك في ثلاث حكاياتٍ، كان أولها حكاية البائع الجوال الذي يجوب الشوارع ليلاً نهارا حاملا مصدر رزقه على خشبةٍ معلقةٍ برقبته مستعيناً بصوته منادياً “بسكويت، بون بون ….” حتى يؤمن طعاماً لزوجته وأطفاله الصغار، ومع كل الجهد الذي يبذله بائعنا أصرت الدنيا ان تقف في وجهه مبتلييه إياه بألم في الأسنان، هذا كله لم يمنع بائعنا من الاستمرار في كفاحه مستعيناً بعصبة بيضاء يربط بها رأسه كلما اشتد عليه الألم، حتى وصل الألم حداً لا يمكن معه الاستمرار في العمل (ذهب صوت بائعنا من فرط الألم ولم تفلح تدريبات زوجته في إعادته) مما اضطر صاحبنا للجوء إلى خياره الأصعب والأخير وهو الذهاب إلى طبيب الأسنان

هنا تبدأ المكاشفات الواقعية تتجلى لتعري مهنة الطب من الجانب الإنساني وتكشف الجانب التجاري منها، الطبيب يطلب من البائع العديد من الصور والفحوصات والتحاليل ليصل به حتى الرنين المغناطيسي وتحاليل البول، مما يكلف البائع اموالاً طائلة من المستحيل عليه تأمينها، وفي هذه الحالة لم تعد تجدي توسلات زوجة البائع وصراخ اطفاله الرضع مناجية إياه الاستمرار في العمل، حيثُ مات البائع متأثراً بآلامه، وبعد موته تمّ عمل نصب تذكاري له كمثال للعامل المكافح، في إشارةٍ إلى سخرية القدر حيث اننا لا نقدر الشخص حتى موته ولو أن الأموال التي دُفعت للنصب التذكاري تم توظيفها لعلاج البائع لما مات من شدة الألم، ولا بدّ أن شكل العامل منذ بداية الحكاية حتى آخرها  وهو يحملُ مصدر رزقه على خشبة معلقة برقبته بطريقة أبعد ما تكون عن مظهرٍ إنساني أقرب ما تكون إلى طريقة حمل الدابة للعربة قد باحت بالكثير من المفاهيم الخفية التي تُشير إلى اهدار كرامة الإنسان حتى بطريقة عمله، هنا جاء أداء قصي قديسة منقذاً للعرض المسرحي برمته حيثُ انه قدم لوحةً واقعية أقرب إلى التراجيكوميدي بأسوبٍ مقنع بعيداً عن الابتذال والتهريج

وتستمر لمى بدور بأدائها لدور الزوجة في الحكاية الثانية ولكنها هنا زوجة لشخصٍ ثانٍ في حكايةٍ منفصلةٍٍ عن الأولى ولكنها تحمل نفس الروح والفكر، حيثُ تمّ الانتقال إلى الحكاية الثانية بطريقة مرنة لا يكاد المشاهد معها يشعر بالانفصال أبداً فقدم قام الممثلون بحمل الكفن الأسود الذي تمّ تغطية جثمان البائع الجوال به وقلبه على الوجه الآخر الذي يحملُ صور وجوهٍ باللون الأبيض وتُفتتح الحكاية الثانية بزواج شابٍ كان يحلمُ بدارسة الهندسة من فتاة جميلةٍ وفي البداية يتم إلقاء الضوء على فكرة غلاء المهور وتكاليف الزواج وكيف تحول الزواج عن مفهومه الأساسي ليصبح تجارة، وفي فترة وجيزة يتحول هذا الزوج من شاب طموحٍ يحلم بدراسة الهندسة إلى أبٍ لأربعة أطفال بحاجة إلى تأمين لقمة العيش لتشير إليه زوجته أن يذهب إلى ابن عمها المسؤول وصاحب شركة اللحوم ليؤمن له فرصة عمل، وبعد إصرارٍ شديدٍ من زوجته ذهب وهو في طريقة يردد كلماتٍ عن الأدراج والتسلق في إشارة منه واقعٍ نعايشه كلّ يومٍ ألا وهو التسلق على أكتاف المسؤولين للوصول إلى المناصب والحصول على فرص العمل، فمن لا واسطة له يتسلق على أكتافها لا فرصة للحياة الكريمة لديه، حيثُ يتم الموافقة على توظيف الشاب الحالم من قبل مديريّ الشركة ولكن بشرط أن يحقق أعلى نسبة أرباح في صفقة بيع لحومٍ لإفريقية ولكن بأقل أسعار


يحاول الشاب جاهداً إيجاد نوعية لحومٍ رخيصة
 محققة للشروط ولكنه يفشل حتى يتم تهديده بطرده من عمله إلا ان مناجاة زوجته وأطفاله الجياع دفعته إلى التفكير أكثر حتى توصل إلى تصدير لحم الجرذان بمباركة من مديريّ الشركة التي يعمل بها، وفيما بعد حصل على مناقصة لمكافحة الجرذان وقام باستثمارها وتصديرها إلى إفريقيا وحصل على وسامٍ لأنه يساهم في المحافظة على البيئة، إلا أن الصراع الداخلي بدأ في قلب زوجته التي قالت له أنه لم يعد يفكر في الآخرين وأصبح يُفكر في نفسه ومنصبه فقط، لتأتي مبررات الطب بأن لحم الجرذان مفيد، مبررات القضاء بأن الأمر قانوني، ومبررات الدين بأن الأمر جيد جداً ولا يخلّ بأصول الدين، هكذا استمر الشاب الطموح بصفقاته مرتدياً ربطة عنقه الأنيقة حاصلاً على سيارة ميرسيدس مكافأة على جهوده، هكذا حتى تفشى مرض الطاعون في إفريقيا وأودى بحياة الآلاف من الأروح، عمّ الخبر جميع أنحاء العالم وتناقلته وكالات الأنباء والصحف والشاشات وتوجهت أصابع الاتهام نحو بطلنا الحالم لينتهي به الأمرّ إلى الانتحار شنقاً بربطة عنقه الأنيقة الفارهة، فقد فضل الموت على ان يحيا مثقلاً بذنوب روحه. وقد أدى حازم زيدان دور الزوج والشاب الحالم بطريقةٍ جميلةٍ لا تخلو من الاندماج في تفاصيل الشخصية، حيثُ أدى العديد من المشاهد وكأنه يأخذ دور الراوي للأحداث بأسوب سلس وإلقاءٍ جهوريٍ معبرٍ مع القليل من الأخطاء الخاصة بضبط الكلمات بطريقة لم يستطع الجمهور أن يميز إن كانت الاخطاءُ سهواً أم أنها عمداً وجاءت انصياعاً لما يتطلبه السياق ومقتضيات فكرة النص التي تحكم على الشخصيات بالفوضى سواء بالأفكار او التصرفات او طريقة الكلام

اما عن الحكاية الثالثة والأخيرة فقد جاءت متممة لما قبلها من الحكايات إلا أنها إضافة لما تحمله من تبدل المفاهيم والمعايير والفساد والفوضى الذي يغزو حياتنا، تسقط عندها كلّ معايير الإنسانية، فبطلنا في الحكاية الثالثة تأتيه وظيفته على طبقٍ من فضةٍ لأنه يتوافر فيه الشرط الأساسي لمزاولة العمل ألا وهو (الجنسية) كم هو رائع ان تحصل على وظيفة بمرتب محترم لمجرد أنك تحمل جنسية بلادك، وبطلنا الأخير (مازن عباس) بحمل الجنسية الأرجنتينية، وبعد فرحته الكبيرة لحصوله على وظيفة محترمة لحمله الجنسية الأرجنتينية بدأيردد “لالاي لالاي أرجنتيتي أه يا نيالي” إلا ان الصدمة التي تسقط عندها جميع معايير الإنسانية هي أن مازن كان مضطراً للعمل بديلاً عن كلب المسؤول الذي مات فهو يتصف بأهم ميزة للعمل ألا وهي الوفاء، هذه المرة لم ينقذ بطلنا غناء زوجته له لأغنيته المفضلة من الموت على قيد الحياة بعد أن هُدرت كرامته، إلا أن وضعه كوضع بطلينا السابقين أجبره نداء الواجب اتجاه زوجته وأطفاله الجياع ان يقبل بالعمل ضارباً عرض الحائط بكرامته التي هدرت منذ اول لحظة في مقابلة العمل، بدايةً رفض بطلنا أن يرتدي طوق الكلب الذي يعد من واجبات العمل الاولية ألا وهي الالتزام بالزي الرسمي هنا ولسخرية القدر أصبح الالتزام واجباً، إلا ان نداء الواجب استمر في الحفر في تلافيف دماغه حتى وافق على ارتداء طوق الكلب، ولأن الالتزام بأساسيات العمل واجباً يتوقف عليه طرده من العمل إن لم يستجب فقد وافق على ان يجثو على اطرافه الأربعة كما تجثوا الكلاب تماماً، والأن الحياة تأبى إلا ان تتم لعبتها حتى النهاية تساقط المطر بغزارة مما اضطره إلى اللجوء إلى مكتبه الرسمي ألا وهو منزل الكلب الصغير، حتى انتهى به المطاف إلى أكل العظمة المخصصة للكلاب من قناعة داخلية أنه كلب حقاً، في إشارة إلى ان الإنسان قابل للتطبع 

ديكور المسرح صُمم بطريقةٍ ذكيةٍ ومرنة تُمكن الممثلين من التنقل وتعديل الأدوات بما يتوافق مع المواقف بكل سهولة، بالإضافة إلى مشاركة الدُمى للشخصيات في الكثير من الحوارات مما أعطى الحرية في الانتقال بين الحوارات بطريقة لا يشعر المتلقي معها بفجوة او هوةٍ 

أما النص فقد بُني بأسلوبٍ محكمٍ متناوبٍ بين اللغة الفصحى والعامية وبالإضافة إلى التداخل مع لغة الشارع، بحواراتٍ رشيقةٍ خدمت الفكرة بعيداً عن الحشو، اقرب ما تكون إلى ذهن المتلقي ببساطة لا تخلو من الرصانة 

 

 


هكذا نلاحظ أن
نظرية الصراع تلازم هذا العرض المسرحي حيث نجد ان الحكايات الثلاث مبنياتٍ على صراعٍ مبطن، صراع بين الإنسان وذاته، بين الإنسان ومجتمعه، بين الإنسان وواجباته، صراع مع المفاهيم والمعايير والتفاصيل الصغيرة والكبيرة، صراعٌ مع الحياة من أجل الحياة

على أمل ان تُسدل الستارة يوماً على آلامنا مبشرة بتحقيق آمالنا