الارتباط بالذاكرة الفكرية والعينيّة، التنوع في العمل الفني تمثيلاً وغناءً وكتابةً، المحاكاة الجادة للمجتمع وأعماق شخوصه، النجاح المُستحق طويل الأمد … وغيرها من المعايير التي جعلت من الفنان الحالة «ياسر العظمة» نجماً قيّماً ذو مكانة خاصة فنيّاً وجماهيرياً، فَهو الأمين على مرايا الناس وراوي حكاياهم
ولد العظمة يوم 6 مايو 1942 في حي «المهاجرين» الدمشقي، تشكل وعيه وميوله لِلفنون منذ أيام المدرسة، فَكان يشارك في النشاطات والحفلات الفنية، ثمّ بدأ في مرحلة الدراسة الثانوية؛ بِكتابة لوحات بسيطة كان يُقدمها في المهرجانات السنوية، وفي المرحلة الجامعية وأثناء دراسته للحقوق في جامعة دمشق؛ عمل العظمة في المسرح الجامعي، فَشارك في عدة مسرحيات لِموليير وشكسبير وشريدان، وبعد تخرجه توظف في المسرح القومي، وعلى خشبته شارك في أعمال عديدة، كان أولها مسرحية «شيخ المنافقين» (1963) وتلاها عدة مسرحيات: طرطوف (1964)، التنين (1968) وغيرها
انضم في العام 1968 لِنقابة الفنانين السوريين وأصبح عضواً بِها، فَترك المسرح القومي والتحق بِإذاعة دمشق، وعمل بها مؤلفاً ومخرجاً وممثلاً في عدة برامج ثقافية وفنية ومنها: صور ملونة، قطار رمضان… ومن الإذاعة إلى التلفزيون، فَشارك عام 1972 في مسلسل «بريمو» وهو أول مشاركاته التلفزيونية، كما لهُ مشاركة وحيدة في السينما في فيلم «الرجل الأخير» 1973
لم ينقطع العظمة عن المسرح، فَكان لهُ حضوره المتميز في مسرحيتي «ضيعة تشرين» (1974) و«غربة» (1976)، ليعود بعدها بِقوة إلى التلفزيون عام 1977 في مسلسلي «الحب والشتاء» و«رحلة المشتاق»، وتوالت بعدها المشاركات ومنها مسلسلات: الأميرة الخضراء، بصمات على جدار الزمن، أبو الخيل، طبول الحرية
وفي العام 1981 شارك في مسلسل «تلفزيون المرح» إخراج: هشام شربتجي، وحينها بدأ
العظمة العمل مع شربتجي على اطلاق مشروعه، المسلسل الاجتماعي الكوميدي «مرايا»، والذي بدأ بِسهرتين للتلفزيون، تألفت كل سهرة من 11 لوحة، وكانت تلك انطلاقة المسلسل الشهير الذي قدم لاحقاً 19 موسماً على مدار أكثر من 30 عاماً، فَكان من أوائل مَن ابتكر أسلوب السلسلة الدرامية الموسمية التي تقوم على لوحات منفصلة ضمن الحلقة الواحدة، ولا يخفى على أحد نجاحها الفريد ومتابعة الجمهور المحلي والعربي لها طيلة تلك السنين، بما قدمته من حكايا مستمدة من الشارع وأحوال الناس وهمومهم، وما أظهرته من جرأة في طرحها للقضايا الاجتماعية والمعيشية بِأسلوب كوميدي لاذع في حدة نقده وتوصيفه، وكان لِقضايا الفساد المجتمعي والمؤسساتي النصيب الأكبر منها، فالعظمة ميّال للنقد، ولعل دراسته للحقوق هي ما أكسبه القدرة على محاكمة الظواهر محاكمة عقلية سليمة ليس فيها انحياز أو تمييز إلا ما يقتضيه واقع الحال القانونية
يُحتسب للعظمة كتابته لِأكثر من 60% من لوحات مراياه، والتي اقتبس واستوحى العديد منها من روايات وقصص عالمية لِكبار الكُتاب من أمثال: عزيز نيسن، تشيخوف، سومرست موم… وغيرهم، فَقام بِتعريبها أحياناً، وبِتحويرها لِصالح البيئة السوريّة في أحيان أُخرى، ومن الأمثلة على ذلك ما قدمه في لوحات: الرهان، الرجل الذي يعرف كل شيء، الخنجر، بستان أبو حمدي
تنوع العظمة في شخصياته التمثيلية، حتّى أنّه لامس كافة طبقات المجتمع السوري وأطيافه، تنقل بين الشخصيات الريفية والمدنية، وبين الأزمان الغابرة والمُعاصرة، وبين اللهجات المتنوعة والكاركترات المختلفة، ذلك ضمن قوالب فنية مدروسة ومُشترطة للحضور اللطيف والممتع للمُشاهد، وكان مما ميّزه أيضاً؛ ابتكاره مع كل من الكاتبين «نور الدين الهاشمي» و«مازن طه» لِنوع الكتابة الدرامية المُقفاة في الروي والحوار، والتي اعتمدها بِكثرة في لوحاته التي انتقد بِها زمن الخلافة العثمانية وسياسة الولاة، والتي طغت بِشكل خاص في مواسم مرايا 97 و98 و99
للعظمة الفضل على الكثير من الفنانين والفنيين والمخرجين، فَهو من قدم الفرص الهامة لِمن أصبحوا نجوم اليوم، فَكانت «مرايا» مختبر كفاءتهم ونقطة انطلاقتهم نحو عالم الشهرة ومنهم: عابد فهد، كاريس بشار، أدهم مرشد، صفاء سلطان، محمد قنوع، جيني اسبر… والكثير غيرهم. كما تناوب على إخراج تلك السلسلة عدد من المخرجين الذين كانوا حينها في بداية طريقهم، وإن لم تكن تجربتهم الأولى؛ لكنها كانت فرصة هامة لهم لاختبار أدواتهم وإظهار إمكاناتهم، ومنهم: هشام شربتجي، حاتم علي، مأمون البني، سيف الدين سبيعي
شارك العظمة في مراياه عدد من كبار الفنانين، كان وكانوا أوفياء ومخلصين في سيرهم معاً بِذلك الدرب لِسنوات طويلة، مقدمين عشرات اللوحات التي استمالت عدة أجيال من المُشاهدين ولازالت راسخة في ذاكرتهم، ومن أولئك الفنانين: سليم كلاس، حسن دكاك، عصام عبه جي، هاني شاهين، توفيق العشّا، عابد فهد، بشار اسماعيل، سلمى ومها المصري، سامية وصباح الجزائري، وفاء موصلي، هالة حسني، مرح جبر… وآخرين
في العام 2007؛ رغب العظمة بالخروج من عباءة «مرايا» والتنوع في أعماله، فَاتجه لِمسلسل بِعنوان «رجل الأحلام»، والذي تولت إخراجه «رشا شربتجي»، لكن العمل تعرض لعدة عوائق أدت لِتأجيله عدة مرات، حتى أعلنت الشركة المنتجة تأجيله لأجل غير مسمى، وغاب بعدها العظمة عن العمل عدة سنوات، حتى العام 2011 حين قدم «مرايا 2011»، ثمّ تبعه «مرايا 2013» الذي تمّ تصويره في «الجزائر»، ليعود بعدها للغياب طيلة الأعوام السابقة، ومع تحسن الوضع الأمني في سوريا؛ أعلن العام الماضي 2018 عن تحضيراته لِعودة المسلسل الشهير بِموسم جديد، من المتوقع عرضه عام 2020
ومع غنى وقيمة ما حققه العظمة طوال مسيرته الفنية؛ إلّا أنّه يُفضل الابتعاد عن التكريمات والجوائز، والتي نال العديد منها خلال مسيرته الفنية، حيث حصل على جوائز ذهبية ثلاث مرات في مهرجان القاهرة بفضل تميزه بأعماله الكوميدية، ونال جوائز تقديرية من نقابة الفنانين، كما تمّ تكريمه من مهرجان أبها الدولي للكوميديا
كما يُفضل العظمة الابتعاد عن وسائل الإعلام، فَهو وكما يقول؛ يكتفي بالتعبير عن رؤيته السياسية والفنية والثقافية عبر «مرايا». إنّه فنان يفضل العمل دونما ضجيج، ويرى أن صخب النجاح كافٍ لِمن أراد أن يكون فناناً خالداً