هوا أصفر : إتقان البناء الدرامي من المشهد الأول

خاص دراما كواليس

مداورة الواقع وإعادة صياغته ببوتقةِ الخيال الإبداعي، لِخلق عوالمٍ موازية تعصف عاطفةً وفكراً، إنّه ما تقوم عليه الفنون، فَتومض بِسحرها في ظهرية الحقائق الحياتية الصرفة، لِتُزيح ضجيجها الرتيب، وترحل بِنا في تهويمات ما وراء الحدود

الدراما التلفزيونية لها قيمة خاصة بين الفنون، فَهي رفيقة الجلسات وسميرة السهرات، السوريّة منها امتلكت الحظوة الأكبر في المنطقة العربية، بل تعدتها وحقق عدد من أعمالها حضوراً عالمياً بالعرض والجوائز

تعود الدراما السوريّة هذا العام بِقوة في العدد والنوع، بعد أن تراجعت في الأعوام السابقة نتيجة تدهور الوضع الأمني وصعوبات التسويق، ومع انطلاق موسم العروض الدرامية (رمضان 2019)، ومرور الحلقات الأولى، نستطيع تحديد مستويات الأعمال بِحكم أولى استناداً على أفكارها وعناصر جاذبيتها، فَاليوم؛ على العمل الفني الاستحواذ على اهتمام المُشاهد منذ الحلقات الأولى، ومُخطِئ من يعتقد أنّه من المبكر الحُكم، فَالمُشاهد ليس مضطراً لإنتظار ارتفاع المستوى الفني أو اعطاء الفرص، لاسيما أنّ أعمالاً متنوعة تملأ برامج عروض الفضائيات، والأهم؛ هو التوجه والانفتاح على الدراما العالمية التي تحقق لهُ المتعة بِتشويقاتها وحُسن صنعتها

 

هوا أصفر مسلسل سوريّ لبناني تميز مع أولى حلقاته، يبتعد العمل عن الحرب السوريّة التي طغت على النتاجات الدرامية للأعوام الأخيرة، لكنه يدور في فلكها بِأنساق درامية متزامنة معها، يبحث في التركيبة المجتمعية للمنطقة، عبر تفرع قصصي إشكالي يتقاطع ويتراكب لِمحاكاة مفاهيم السلطة والأطماع والفقد، مُتنبهاً لِتحقيق شروط المتعة والإثارة الفكرية والبصرية للدراما التلفزيونية

 

 

العمل للكاتبين «علي وجيه» صاحب الثقافة السينمائية الرفيعة والمُدرِك تماماً لِمفاهيم البناء والتأسيس السليم وصنع الحبكات الجاذبة، والفنان «يامن الحجلي» صاحب الشخصيات المُشاغبة والمندفع بِرصانة نحو نجومية جماهيرية، وهي الشراكة الثالثة للثنائي بعد أن قدما
سابقاً «عناية مشددة» 2015 و«أحمر» 2016، أما الإخراج للخبير «أحمد ابراهيم أحمد»، الذي لفتنا منذ عمله مديراً للإضاءة والتصوير في عدة أعمال، قبل أن ينتقل للإخراج في «طريق النحل» 2009، وينجز بعده عدة أعمال درامية وسينمائية، الانتاج لِشركة «كَت للانتاج والتوزيع الفني» وهو باكورة أعمال الشركة، والبطولة لعدد من نجوم سوريا ولبنان: سلاف فواخرجي، يوسف الخال، وائل شرف، يامن الحجلي، تيسير ادريس، جوي خوري… وغيرهم

تميز العمل في تكامله الفني، من جمالية الصورة البصرية، وإدارة الانتاج، وأداء الممثلين، وغيرها من العناصر، لكن الأهم هو الأساس، النص الدرامي المتين والمنسوج بِإحكام، فَجاء العمل مثالاً للدراما السليمة والمُشوقة التي تُبنى من المشهد الأول يضعنا العمل في مشهده الأول في بؤرته الدرامية، مكان للاكتسابات والخسارات الإنسانية والمادية، وملتقى أبطال العمل، ومنه نستكشف بنية الشخصيات ونتفهم طبائعها وأحوالها، وبالتالي؛ نستشعر ماهيتها ونتقبل تصرفاتها، فَفي السيناريو الجيد؛ البطل هو الشخصية وهو الفعل، ومن بنية الشخصيات تنبع الأحداث وتتشكل الحبكة، المكان هو الكازينو الذي تُديره «شغف: سلاف فواخرجي»، ويرتاده لاعبو الرهانات لِتجربة مهاراتهم في مواجهة الحظوظ، مكان يضج بالشخصيات المثيرة وسط عبق الأدخنة ولوغاريتميات السلطة، منهم «كريم: يوسف الخال»، الغارق في نعيم الصناعة والاتجار بالمخدرات، كما غرقه في حُبّ «شغف»، يرتاده لاحقاً «سوار: وائل شرف» مدفوعاً باضطرار لِهدف نبيل يتمثل بِإنقاذ شقيقه «أمير: يامن الحجلي» الواقع في شر أعماله بعد أن أخذه طيشه وطمعه لِحُكم إعدام يُنفذ بِإشكالية مع نهاية الحلقة الأولى، كما مرور عدة شخصيات في الحلقة أعطت تعريفاً كافياً عنها بِأسلوب مُبطن، ومعالجة سردية أيضحت طبائعها 

وارتباطاتها، مع ترك مجال خفي لِظهور مرتقب لِشخصيات فرعية، وهو ما كان بالتقادم، فَمع مرور الحلقات؛ تعرفنا على شخصيات إضافية داعمة للشخصيات الرئيسية، وهنا نشهد ميزة للنص الدرامي في تمهيده لذاك الظهور، حيث أنّه سبق وأعد المكان لها، فَجاء ظهورها سليماً وسلساً، إنّها ميزة لِحرفية التشويق، تترفع عن كلاسيكيات حيرة المُشاهد وارتداء الفراغ، فَتجعله شريكاً في الكشف دون أن يشعر بِذلك، مما يُحافظ على إيقاع درامي مضبوط وجاذب مع مرور الحلقات

تمر الحلقات الأولى بِتركيب تصاعدي، يتعمق أكثر في الشخصيات ويكشف سماتها الوجدانية المُتسترة وراء أقنعة فرضتها طبيعة وظروف حياتها، يتفتح تدريجياً على المزيد من التفاعلات والخبايا التي جاءت منطقية ومقنعة إثر استنادها على أساس رصين، التحولات مبررة بِتأثيرات الآخر، كما التوجه للنجاة بعد تراكم الأثقال، الخيارات مفتوحة، ولكنها أيضاً محدودة بتفاضلات سلامة نسبية، مما يُهيئ للمزيد من الأحداث المُرتقبة، وينبه لِصراعات بِمستويات عالية ستتكشف لنا في الحلقات القادمة