يُحرقك الضوء بِسَلامة؛ فَيأسرك بِتمام رضاك في وهجه، يُغريك اللون بِسديمياته؛ فَتضيع في سوبرنوفا البعث والتجدد، يُثيرك التشكيل بِتكويناته وأنساقه وتراتيبه؛ فَتتوحد معه أبداً. هي السينما، فضاءٌ يرتحبُ بِعوالم الخلق والوجود، بِالماديات والوجدانيات، بالمعقول واللامنطقي، هي ملتقى الفنون وحارسها، فلا عجب أن تُسلم نفسك طواعيةً لِسطوتها وترتهن لِسحرها
فراس محمد (1987) سينيفيلي سلّم نفسه للسينما، توحد بها ومعها، فأصبح مرصوداً لِعصفها بلا تميمة تقيه مسّها، ثقافة سينمائية عالية يمتلكها السينمائي الشاب تحققت بعد كم كبير من المشاهدات والقراءات، اكتساب المعرفة بِعلوم وفنون السينما يتطلب شغف استثنائي واهتمام عالي في بلدٍ يفتقد دراسة أكاديمية لها، وهو ما امتلكه الشاب القادم من دراسة الهندسة الميكانيكية إلى عالم صناعة الأفلام، مروراً بِدورة دبلوم علوم السينما وفنونها التي تقيمها المؤسسة العامة للسينما سنوياً، العمل في الصحافة والنقد السينمائي وسعت آفاقه فاكتسب خبرة مُضافة، وعلى عكس قلة مقالاته المنشورة في الإعلام المقروء؛ فإنّ نشاطه النقدي غني وكثيف، ديمومة في تحليل الأفلام وتقديم دراسات نقدية عنها على عدة منابر، كان أولها تقديمه عروض سينمائية دورية في نادي (ال تي سي) السينمائي منذ تأسيسه في دمشق عام 2015 وحتى الآن، تلي تلك العروض جلسات نقدية يديرها ويقدم بِها تحليله للفيلم المعروض، كما يحاور الجمهور في آرائهم والأثر المتروك عليهم بِهدف تمكين الاحتكاك الفكري والبصري بينهم وبين عالم السينما
وحين اطلاق المؤسسة العامة للسينما مشروعها السينمائي التفاعلي «بيت السينما» عام 2018 في صالة كندي دمشق؛ أوكلت إليه إدارة وتنظيم عروضه، المشروع يهدف إلى نشر الثقافة السينمائية عبر تقديم روائع السينما المحلية والعالمية، وتوظيف النقاشات النقدية والحوار المثقف مع الجمهور لِدعم الحالة التفاعلية للسينما
وبالإضافة إلى مشاركته في عدة نشاطات مشابهة؛ فإنّ لصفحته الشخصية على الفيسبوك قيمة خاصة، حيث ينشر بشكل مستمر تحليله الخاص لمشاهداته السينمائية، مما جعل صفحته مرجعاً لأصدقائه من عشاق السينما يتابعونها بِترقب واهتمام
أما عن الإخراج؛ فقد أنجز حتى الآن 5 أفلام قصيرة، فيلمان مستقلان , ذي أوت سايد، سيڤن دايز، و3 أفلام (خمس وأربعون، تأويل، الحرامي) من انتاج المؤسسة العامة للسينما ضمن مشروع دعم سينما الشباب، ويحضر حالياً لأول أفلامه الاحترافية بِعنوان «الدائرة السحرية» من انتاج المؤسسة العامة للسينما، ليقف الآن بثقة وثبات على عتبة حلم سينمائي واعد
في فيلم «خمس وأربعون» (2016، 12د)، الذي يُشاركه بِه «هيثم مسوّح»، ينطلق من أنثروبولوجيا المجتمع السوري ويربطها بالزمن ومفارقاته، يرتكز على تحديد البنية المادية والمظهر الاجتماعي المتولد عنها لمعالجة طبائع وتفاعلات طبقاته المتفاوتة والهائمة في فضاء الوقت واحتمالاته، مجتمع منقسم بوضوح، يُحاول الفيلم محاكاته في ثلاث شخصيات متباينة، شخصية السائق تعنون نفسها بالاستسلام للواقع، انشغال تام بالعمل في سوق شعبي ينتمي لِقاع المدينة بِعشوائيته وصخب المنتمين لهُ، الفقر يجعل التفكير مضيعة للوقت والوقوف بعد السقوط إجبارياً، غياب مبرر للطموح لِصالح استثمار الزمن لتأمين سُبل ومقومات العيش، قرار موفق لِصُناع العمل تقديمه بسينمائية واقعية أقرب للنوع التسجيلي، مما يُؤهل لِتَفهُم طبيعية الحالة وتمكين صدقها، أما شخصية الرسامة تحمل توتراً مُبهماً، ملكاتها الفنية تُولِّد لديها هواجس للتأمل والمقارنة، وبالتالي رغبة في التعبير وتفريغ الشحنات الفكرية والوجدانية، وهو ما كان في لوحتها المرسومة بِسخط ونقمة والمُوقعة بِاستنكار للواقع، التوسط المادي بطبيعته يحرم صاحبه من الاستقرار النفسي، يتأرجح باطنياً ويرتجّ في ردود أفعاله وتعاطيه مع الأحداث. تعنى الرسامة بِلوحتها الفنية وتُثمنها فَهي النتاج الفني المُعبر عن موقفها، فَتستاء من عرض بيعها وتحديدها بِسعر تمّ تحصيله من سيدة غنية تريد شرائها هديةً لِطفلها في عيد ميلاده، الغنى يمنح السيدة الثقة، ويوسمها بِشيء من القسوة والبرود، وهو اكتساب مُحصل من عالم الأرقام والتعاملات المادية الكبرى، وتصل لحد اللامبالاة بِمن هم أقل مستوى حتى حين التسبب بأذيتهم
ثلاث شخصيات مرتبطة بمكان وزمان واحد، ماذا لو حصل تغيير بسيط في أحداث الزمن؟ وكيف لدقيقة واحدة بِتعديلات تبدو بلا قيمة أن تغير مجرى ومصائر؟ هو ما يحاول الفيلم طرحه ضمن لوحته السينمائية المُرقمة 45 بمعالجة تترك مساحة للتأمل، وصنعة ترتكز على الصورة واختزال الحوار لِفتح آفاق للتفاسير تثري موضوعه
أما في فيلمه «تأويل» (2017، 12د)، يُعيدك إلى كلاسيكية السينما وبداياتها، رجوع إلى أصالة لغة الصورة وسينماتوغرافيا الأبيض والأسود، الاشتغال على الصنعة السينمائية في الفيلم يثبت نضج ومعرفة عميقة بِفن السينما ودلالاته الوظيفية
بِفكرة قيّمة ومُلّحة، ومعالجة دقيقة في التبسيط، نجح السينمائي بِصناعة فيلم متحرر من سطوة القواعد وقيودها، تغيب الأحداث الكبرى وترسم الكاميرا الحبكة بِتعابير دقيقة للصورة، الحرب السورية غائبة عن الفيلم لكنها حاضرة بِتأويلاته، ذكاء درامي يُسترها في الذهنية، وفي الواجهة شخصيات صامتة مستكينة في مكان عريق هو مقهى دمشقي يعود عمره لِحوالي 400 عام، ما بين الحائرة والغير آبهة تتقاسم الشخصيات المكان كما تتقاسم فراغها الداخلي بِثقل وملل، الخروج عن القواعد وضعف الحس السلوكي السليم بادٍ بوضوح عليها، لا احترام للقوانين ولا رقيب على تطبيقها، يتسرب الوقت ويضيع، الإهمال مستمر ليصبح أمراً اعتيادياً، والتحرك للعمل ضرورة يحاول الفيلم التنويه لها بإدانة من يتجاهلها أو يُسلِّم للواقع، إطلاق صافرة الإنذار في نهاية الفيلم تُعلن تلك الإدانة، الكاميرا مهدت سابقاً لها، حركتها تلاحق الشخصيات، تُصور تفاهة الحال وعقم الخنوع لهُ، جهد واضح في المعالجة اللونية للصورة دعمت الفكرة وعكست اختلاجات النفوس وانكساراتها في هذا المكان، كما هو خيار الصمت بما منحه من مساحة للمقاربة والافتكار.
لكن التجربة الأميز للسينمائي كانت في فيلم «سيڤن دايز» المُعاد مونتاجه مؤخراً (2019، 26د ) بعد 5 أعوام على نسخته الأولى 2014، يحاول صانعه فهم مقولة «أندريه تاركوفسكي» في آخر محاضراته أمام طلاب مؤسسة السينما في موسكو: ليس بِالإمكان حمل كاميرا والخروج إلى الشارع وتصوير فيلم
هي عبارة غير مقنعة لابن مدينة «دمشق»، المدينة الأكثر ثراءً بالتناقضات والمفارقات، فَفي مادياتها؛ حتى الحجارة لها ذاكرة وروح، وفي سحنات ساكنيها المتنوعة المتآلفة؛ تزدحم ألاف الحكايا والأسرار. مُشبعة بآلام الحرب، لكن عزيمتها لا تلين وإرادتها لا تهون، مدينة غارقة بالسينما، كل مافيها ينبهك ويغريك لِصناعة الأفلام، ولِسينمائي باحث ومثابر على ترصد ظواهر وخفايا بيئته الدمشقية؛ يصبح تحدي تاركوفسكي لِزاماً لابد منه وإن بدا الأمر جدلياً وغريباً
يُبادِل بين كاميراته الثلاث وهو يخوض تحدي الأيام السبعة، كيف تعطي عين الكاميرا للأشياء قيمة مضافة؟ وما سر السينما في إعادة تدويرها لإدراك الإنسان ومعاني الأشياء مع مرور الزمن؟
يعلن عن نيته صناعة فيلم عن فيلم، يشتغل على عدة محاور، صور الناس والشوارع والمحلات التجارية كفيلة بتحديد الزمان والمكان وتنكيهها بِسمات الهوية، تُكسب الفيلم سينوغرافيا العسف والحيرة، الوجوه في مرئياتها وتقاطيعها توحي بروايات كثيرة، والأمكنة بِطبائعها وتفاصيلها تشكيلات غرائبية تختزن قصصاً لا حصر لها، فَكيف ينتقي سينمائيو هذي البلاد مواضيع أفلامهم وسط هذا الزخم؟
ينتقل السينمائي في رحلته إلى رفاقه من السينمائيين الشباب ليوجه لهم هذا السؤال مُوثقاً إجاباتهم، استنكاه الواقع بغرابته يغلب على الردود، فَغِناه وعبثه يكتنف ألاف الأفكار، ولكن ما جدوى الفنون ومكاشفاتها في بلد يُحيّد الثقافة ويلهث على جبهاته لأجل البقاء؟ هنا كان لابد من التوجه إلى المنصات الثقافية لاستكشاف انعكاسات الواقع على الشباب الحالم وماهية الضياع والإرباك لديهم
يستعد شقيق المخرج لِأُولى مشاركاته المسرحية، القلق والتوتر أحاسيس طبيعية نظراً لغياب رؤية واضحة للجمهور الفني المحلي في النوع والكم، يُقام العرض ويتفاعل الجمهور، الحراك الثقافي مستمر بِهمة وإصرار رغم كل ما يحصل، والأفلام المتميزة تُنجز كما هذا الفيلم رغم جميع العوائق والمراوغات، و«دمشق» باقية بِثراءٍ أصيل لِتلد المزيد من الأحلام
يوالف صاحب التجربة محاور فيلمه بمونتاج سلس، وهو العنصر الأهم في العملية، فالتجربة حساسة وتتطلب حذراً في الربط لتحقيق نجاحها، ليصنع بالنتيجة النهائية سينما تجريبية، خارجة عن البنية السردية التقليدية، استفزازية في طرحها، مثيرة وذكية رغم مسحة التعقيد، مُنجزة بِتواضع تقني بِثلاث كاميرات منخفضة الدقة وبدون معدات إضاءة ولا صوت
بين محدودية الانتاج وسطوة الرقابات وغيرها من مُسببات الترهل الحالي للسينما السورية في الداخل؛ يبقى «فراس محمد» والسينمائيون الشباب بانتظار تغير الحال وإيجاد فرص مناسبة تحقق شروط إخراجية وانتاجية مثالية لِتقديم سينما سوريّة أصيلة الصنعة ومواكِبة لِتغيرات الزمن