عندما يبدأ الفجر بآذانه، معلناً عن يومٍ جديد يبدأ بالتقرب من الخالق ، تستزيد القلوب من السلام وتطفو فوق متاعب الأيام ، فكيف إذا كان هذا الآذان لمنشد حباه الله بصوت يحمل في نبراته كل الشجن … كلالنقاء
المؤذن والمنشد الديني، ابن حلب، الشيخ صبري مدلل ..آخر شيوخ الطرب في سورية الذي تتلمذ على يد عمر البطش وصقلت صوته أساليب التجويد التي تعلّمها منذ طفولته لتجعل من صوته الماسي مدرسة في الغناء الشرقي
بدأ صبري وهو صغير برفع الآذان وهو تقليد أساسي في المدرسة الحلبية وبعدها انتقل إلى جامع قسطل الحجارين ومنه إلى الجامع الأموي وقد بقي مؤذناً قرابة السبعين عاماً، وكانت الناس تتهافت إلى المئذنة لسماع ذلك الصوت الجميل المتمكّن من الأداء بطريقة مذهلة
انضم صبري مدلل في الأربعينيات إلى فرقة الإذاعة الموسيقية لتقديم وصلات الطرب فيها وغنى على الهواء ( ابعتلي جواب ) لبكري الكردي وغيرها، إلا أن والده ومن منظور ديني طلب منه ترك الفرقة والاكتفاء بالإنشاد الديني وقد رضخ صبري مدلل لمطلب والده واكتفى بفرقته الموسيقية للإنشاد والتواشيح الدينية
غنى صبري وفرقته بالإضافة إلى التواشيح والأذكار عدداً كبيراً من أعمال سيد درويش وزكريا أحمد وغيرهم بنفحته الحلبية، وهناك تسجيل له لأغنية هوى صحيح الهوى غلّاب لأم كلثوم التي أداها بطريقة رائعة ترك فيها بصمته الخاصة
دخل صبري مدلل مجال الغناء الصوفي من أوسع أبوابه فغنى ولحّن للكثير من الشعراء من بينهم ابن فارض، هذا النمط فتح له الطريق للغناء في باريس 1975 – 1986 مرتين في مهرجان التراث العربي وهو في عقده الثامن ويعتبر صبري مدلل أول من قدم الإنشاد الديني في أوروبا وقد شارك بعدة مهرجانات عربية وهو في هذه السن :سوريا- مصر – بيروت – قرطاج وغيرها
شكّلت مسيرة وصوت الشيخ صبري مدلل مادة دسمة للدراسات والأبحاث في علم الصوتيات، فقد صدر مؤخراً عن وزارة الثقافة بدمشق كتاب للباحث والموسيقي محمد قدري دلال عنوانه (شيخالمطربين.. صبري مدلل) كما أنجز المخرج السوري محمد ملص فيلما “وثائقيا” بعنوان (مقامات المسرّة ) عام 1998 يحكي تاريخ هذاالفنان السوري الكبير
من إحدى ميزات صوت صبري مدلل عدا عن تنقلّه بليونة وسهولة بين المقامات الشرقية بطريقة يعجز عنها الكثيرون. امتاز أيضا بطول النَفَس وقد أعطى الباحث محمد قدري دلال في كتابه مثالأ على ذلك في أغنية يا جارة الوادي من ألحان عبد الوهاب والمشكلة التي وقع فيها كل من غناها في هذا البيت
وتعطّلت لغة الكلام وخاطبت عيني في لغة الهوى عيناك
فقد لحّن عبد الوهاب البيت بلحن متصل إلا انه لم يستطع أن يغنيه كاملاً دون اقتطاع وكذا الحال مع كل من غنّاها، ما عدا صبري مدلل الذي استطاع غناءه كاملاً دون وقوف او اقتطاع
رحل صبري مدلل ( 1918- 2006 ) بعد مرض عضال ألمّ به تاركاً لنا إرثاً كبيراً مليئاً بالابداع في فنون المقام، الموشح والغناء الديني