لم تعد السينما السورية المستقلة فكرة احتمالية لإرضاء مريديها ، فأمام العبث الفيلمي المحتفى بهِ و بفوضاه المؤدلجة ، صار لزاماً على كل سينمائي سوري -هاوٍ أو محترف – الثورة على الانبطاح الممنهج و نتاجه المؤسساتي التقليدي المفروض ، و المرفوض غالباً لدى جمهور سئم التكرار و الرداءة
و مع اصطدام المخرجين السوريين الحالمين بسينما نقية تلبي ثقافتهم و رؤاهم ، بالواقع البروتوكولي الحاكم المحكوم ، كان التوجه للانتاج المستقل حلّاً مرضياً و حاجة مُلحة للنهوض من الهاوية ، فقاموا بصناعة أفلام روائية قصيرة أو وثائقية بأنفسهم ، و لكن تلك الأعمال لا تغني عن خصوصية الأفلام الروائية الطويلة و الحالة الإبداعية الخاصة بها ، فتوجه البعض نحو الخارج بحثاً عن منح دعم تمويل لانتاج أو استكمال انتاج مشاريعهم ، بينما استمر آخرون بالعمل داخلاً عبر مؤسسات تطوعية جمعت محبي السينما و الراغبين المهيئين للمساهمة في تعافيها ، بينما فضّلَ أو لم يجد بعضهم بديلاً عن انتاج فيلمه بنفسه إثر تعثره في الاتفاق مع ممول أو راعٍ ، أو ابتعاد فكرة مشروعه عن ميول الجهات الداعمة و أهوائهم السياسية و الفكرية ، فرفض تقييد أدواته الإخراجية بسلطتهم المالية ، و آثَر على نفسه حرية خلق و صياغة مشروعه و المجازفة بِماله الخاص في مغامرة غير عادلة لهُ نظراً لعوائق العرض و التسويق
فكان المخرج الشاب معن مايز الجمعة (1984) في طليعة المجازفين ، و صنع فيلمه الروائي الطويل الأول “زينة” (2018) (62د) كتابةً و إخراجاً و انتاجاً ، بالتعاون مع من آمن بهِ ، ليقدم فرضيته السينمائية الخاصة ، بأسلوب إخراجي جديد و حساس ، يتحدى بهِ نصاً و إخراجاً الأعراف المُتبَعة في الكلاسيكيات الروائية الطويلة و الانتاجات الاستهلاكية الحالية
فكانت الكاميرا بشكلها المباشر قوام فكرته الإخراجية ، و حاملاً للحكاية ، حكاية زوجين تتقاطع و تتشابه و تلتقي في أحداثها و مفرداتها الروائية مع حيوات السوريين عامةً ، كانت الكاميرا شاهداً يوثق سيرورتها و يشفُّ طبائع شخوصها بما تحمله من رمزية تجاوزت الحدث ، و استعارت من الماضي إرادة الحياة الأزلية للإنسان ، فالزوجة زينة (علياء سعيد) كانت المرأة السورية بجمالها و صمودها و عشقها ، و قدرتها على تحدي الصعاب و التفاعل مع الأزمات بحكمة لا تُفضي إلا للاستمرار بالحياة ، فترفض التسليم و الاستكانة و تتمرد على حربٍ أودت بزوجها لمكانٍ محاصر ، لم تفاوض أو تدفع لأملٍ احتيالي بعودته ، و لم تيأس لأوهام وعود البسملة و الصلوات النارية ، لم تقبل إلا أن تصل لهُ و لو ادعت و تحايلت ، لتشاركه حصاره ، و تعتنيه في مرضه و وحدته ، و تنقل عشقها إلى كلِّ مكان يجمعهما ، مستمرةً بعيشِ شغفها ، فَالحصار أضعف من إرادتها بالحياة ، و أوهن من إعاقتها في غمر الوقت بأفكار قد تبدو غير مناسبة للحالة ، فأرادت كتاباً و حصلت عليه من مجمل استعارات حوائجها ، و أرادت إطعام زوجها فأمرتهُ بثلاثٍ أن ” اقرأ ” ، و لم يمنعها الحصار من ممارسة الحب مع زوجها هنا و في كل مكان ، كما لم يمنعها من الرقص ، و الالتزام بوعدها لنفسها بسقاية كل ما يزرعه زوجها ، زوجها ممدوح (لجين اسماعيل) الجندي الاحتياط ، الهيمان في ضعفه و قلة حيلته أمام قدرٍ فُرِضَ عليه و ألقاه مصاباً عاجزاً عن فكِ نفسه من حصارٍ لم يجد من يشاركه بهِ سوى زوجته ، ترعاه و تواسيه و تشاركه انتظاره العبثي لنجدةٍ تضاءل الأمل بوصولها مع تكرار الوعود ، كما تضاءلت طاقة تحمله و فكاهته ، فَدفعهُ خوفه لتوصيتها بنفسها و البحث عن سعادتها حتى و لو خانته
زينة بعفويتها و تمردها تبقى مُتمسكة بتوثيق حصارهما رغم امتلاء ذاكرة الكاميرا ، حصار يتقاسمانه زمكانياً و وجدانياً ، فتُفسح المجال بحذف المقاطع تباعاً ، و تحتفظ بمقطعٍ واحد صورته يوم الاحتفال بعيد ميلاد ممدوح ، فالذكريات قد تُمحى رغبةً أو جبراً ، أما الميلاد لا يمكن ولا يصح محوه واقعاً و أملاً . لم يقدم الجمعة شخصية زينة كبطلة ملحمية ، بل تعامل مع رمزيتها بطرح مختلف عن السائد نصاً و إخراجاً ، استطاعت علياء سعيد بموهبتها و عفويتها التقاط مفرداته ، و أداءه بتميز أمام كاميرا المخرج الثابتة ، متحررة و منطلقة دون تكلف ، لتثبت قدرة الأداء العفوي المتقن على صياغة العمق الحسي ، بالمقابل تماهى لجين اسماعيل مع الشخصية ملتزماً و مشاغباً ، فحملَ الشخصية بأدواته الغنية و أضاف عليها تفاصيل تُحسب لهُ كممثل متجدد و لاعب فني محترف
غلبت الزاوية الواحدة و اللقطة الأمامية المباشرة على معظم المشاهد ، مع اختلاف حجم اللقطات تبعاً لموقع سكون الكاميرا في كل مشهد ، لتضع الكادر في مواجهةٍ مباشرة مع الكاميرا ، و تلتقط مكونات المشهد الحسية و الحركية ، و تناغمها السينوغرافي و الحواري ، و تهميش الشخصيات أحياناً بالمقارنة مع المحيط ، فكان كادر الحصار دقيقاً في رمزيته و موازنته اللونية و الحسية ، ابتداءً من لون الحائط الأزرق الرائج مدنياً في الحروب ، و إضافاته الرمادية الباحثة عبثاً عن الأمان ، و السوداء المفروضة قسراً ، و النافذة العالية لخلاصٍ بعيد المنال رغم تسترها برداءٍ أبيضٍ مسالم وعلى الحائط حلمٌ بطفلٍ لم يولد ، حلمٌ شكّلَ الأمل المُجهَد باستمرار الحياة
أما الأرضية الترابية الأم ، حملت حقائق لم يعد من الممكن تجاهلها ، لتقول حيناً ، أن المرأة هي المنتصرة دوماً في التنظيم و التسوية ، مهما حاول الرجل اللعب معها ، فلن يلقى سوى النتيجة صفر ، و تبقى هي صاحبة القدرة على إنقاذ العالم من ظلامه و تشظيه ، و تقول حيناً آخر ، أن الأحفورات الإنسانية لم تُصنع إلا لِإنسانٍ يحاول تخليد نفسه حينَ لم يلقَ من يُقدر تضحياته و يسعى لإنقاذه ، حقيقة صادمة حد الإغماء ، لإنسانٍ يرتبك حتى عند محاولته تقطيع قالب حلوى ، إنسانٍ لا يليقُ بهِ إلا الملابس المدنية
و جاء الحوار برشاقته و رهافته مكتنفاً بسمات شخوصه و تفاعلاتهم ، ليطرح تساؤولات و أفكار مُلِحة و يستنتج الإجابات دون تقديمها بشكلها الصريح ، تاركاً للمشاهد تأويلها و استنباط ما ورائياتها ، عبر تصوير الصراعات الداخلية و تشريح الأفكار بحذر مرتبك ، و متناولاً مفاهيم دارجة في الحروب كالانتماء و الفداء و الحب و الولادة …. ضمن حوارات مكثفة باختزال ، تغطي مساحة الحكاية بأسلوب جاد و مشوق ، فتجلى التناقض الكلامي بين الجدية و السخرية ، في صراع بين المنطق و ما فوق المنطق ، و بين الأمل و المقاومة و الاقتناع بالحاضر و الاستسلام لهُ و البحث مجدداً عن ومضات أمل بهِ
و تجلّى الصمت في فواصل الحوار عاكساً واقعية الحدث و مُبطناً لانهزام حالة الأشخاص النفسية وسط الحصار ، و استئثر على أحد مشاهده الطويلة بمدة (4:48د) كحوارٍ أعمق من الكلام ، و أكثر قدرة على بلورة الفرضية ، فكان المشهد الصامت أنضج مشاهد الفيلم في مواربته بين التعبير و الإيحاء و التلقي و الإصغاء ، و صراع الشخصيات بين القبول و الرفض
و مما ميَّزَ الفيلم و فوَّقَه على السائد ، ذهاب المخرج لتجربة حسية سينمائية جديدة ، بتخليه عن عنصر الموسيقا التصويرية ، مختبراً قدرة الصورة السينمائية و مسار السرد في التأثير على المتلقي ، و متحدياً القدرة المضمونة للعنصر الموسيقي في إثارة المشاعر و توجيهها ، مفضلاً الابتعاد عن المراوغات الموسيقية
في المحصلة ، شكلت فرضية المواد المصورة مشاهد الفيلم ، بتراتبية سردية ذكية و مثيرة ، فكان “زينة” حالة سينمائية جديدة و شجاعة و منفتحة على ابتكار لغات سينمائية بعيدة عن أهواء الممول النمطية ، كسرت القواعد و وسعت الرؤى ، و قدّمت معن الجمعة كمخرج واعد و مبدع مُبتَكِر و مُبَشِر بنهضة سينمائية سورية