تتقافز الأحرف الالكترونية الخالية من العواطف مع كل حدثٍ يصيب الشارع السوري في موت شخصٍ محط أنظار، ليعود ظهور انقسام المجتمع السوري من جديد حول بعض الأشخاص والأفكار، هل هذا أمرٌ سلبي؟! لا على العكس إنه أمرٌ إيجابي ويدل أننا لسنا مصنوعين في قوالب وأن القولبة بعيدةٌ عنا، لقد نجحت امريكا والفكر الغربي بتحمل مصطلحات الإنسانية إلى الشعوب جمعاء لكن هذا التحميل بدا مشوهاً وناقصاً أحياناً، ويستخدم استخدماً كيدياً في أغلب الأحيان، فأميركا نفسها استخدمته لمآربها في كل قضايا العالم وهذا طبيعي أن يستخدمه الشعبُ والناس على اختلاف سوياتهم الثقافية بما يحتضن أراءهم ويحميها من الزلل والانتقاد
يكثر التطبيل والتزمير أكثر ما يكثر في حوادث الموت، هذا الموت الذي طال الكثير من أبناء الشعب السوري، وطال شخصياته العامة في مختلف مجالاتهم، ومع كل موتٍ جديد لشخصية عامة تفتح جردة حسابات طويلة حول سلوك هذه الشخصية المتوفاة، وتبدأ كلمات الرحمة أو اللعنة حسب الهم الأيديلوجي الذي ينبثق أغلبه من فكرٍ ديني حول جواز الترحم أو عدمه، ألا يذكرنا هذا بالفتاوى التي كان يطلقها شيوخ ( النص كم ) خلال سنوات تغلغل الفكر الديني بعد عام 2003 في هذه المنطقة؟ المشكلة ليست في الترحم أو عدمه المشكلة في مصالح المترحم مع المرحوم، نعم إنها المصالح ياسادة وهذا للأسف ما يبدو واضحاً في سلوك الكثيرين، لأن هذا الترحم لا يكون لأغراض روحانية أو “إنسانية” بل على العكس كثيراً ما يكون القصد منه إرسال رسالة تحمل رأياً أو موقفاً أو مصلحة ما
حين رحلت السيدة ابتسام أديب انتشر نعيٌ محزن حول الراحلة، نشره مثقفون وعامة، هذه النعوة أطلقت صفتي “الكاتبة والأديبة” على الراحلة وألصقت بعدها صفة “والدة الفنانة سلاف فواخرجي” نعم هذه معلومات صحيحة وليس فيها من معيب، لكن كان مهماً جداً على المترحمين أن يقولوا لنا عن ماهي الكتب أو الروايات التي تركتها لنا الراحلة، فهذا خير من معلومة أمومتها للفنانة سلاف، فالإنسان حين يكون في حقلٍ إبداعي يكون ورثته إبداعه الفكري قبل أبنائه، مضت أيام حتى استطاعت إحدى الصحف أن تعرف أن الراحلة كتبت مسلسلاً تلفزيونياً واحداً ومجموعة قصصية، لم يهتم أحد فيما بعد بمعرفة اسميهما، فقد انتهى واجب العزاء لسلاف، واعترف الجميع ضمناً أنهم لا يقرأون ولا يدققون. وكان الأصدق نعياً لها هم الفئة التي قالت بشكل واضح أنهم يعرفون طيبة قلب هذه السيدة ويدها الممدودة للخير ووجهها الباسم في وجه من يجلس إليها وينصت إلى حديثها، فهو الصدق حتماً والمعرفة الصادقة، خارج دهاليز المآرب والمصالح التي لا تخفى على أحد ولكن الجميع يتجاهلها
تكرر ما يشبه هذا الحدث مع موت الفنانة مي سكاف، الذي بدا مفاجئاً ولم تعرف أسبابه فصديق موقفها وغربتها الفنان فارس الحلو، قال (في ظروف غامضة) على صفحته الشخصية على فيسبوك، بينما قال آخرون أنها أزمة قلبية، وشكك المهتمون بالأمر، مي سكاف خلقت انقساماً لأن من ينيعها فهو يتبنى مواقفها، ومن يلعنها ينكرها فناً وموقفاً، الحقيقة أن سكاف لم تكن تعترف بجمهور المؤيدين على الإطلاق بل تنكرهم وتنكر وجودهم وكثيراً ما طالت منشوراتها عبر صفحتها على فيسبوك أو ظهوراتها المتكررة خلال الحرب السورية اعتبار هؤلاء الناس غير موجودين، واعتبارهم قتلة مأجورين وهموهم وسراب سيزول، حتى زملاء مهنتها صرحت بما يشبه: كيف كنا نعيش مع هؤلاء ؟!
سكاف لا تريد إنسانية أحد ولم تترحم على أحد وقد هاجمت الفنان دريد لحام ونجاح حفيظ وسيف الدين سبيعي وآخرين في كل موقف أتيح لها إبداء رأيها فيه، وكانت من أوائل الفنانات الشتامات والشامتات في كل حدث داخلي في البلاد، ولها موقف يخص التصفية التي طالت الجنود السوريين والمدنيين الأسرى الذين كانوا في سجن التوبة لدى تنظيم جيش الإسلام الذي أرسلت له التحيات مراراً، كان موقفها من الأسرى/القتلى شامتاً دون مواربة، وموقفها من موت الوزير السابق عمران الزعبي، تنافلته وسائل اتواصل بشكل دامغ وواضح والكل يعرفه، إرسال التعازي لروح مي بدت مبالغ فيها مثلا ثمة من وصف روحها بالنقاء، ولا نعرف من أين استمد هذا الموقف وآخرون زادوا في الشتم والتقريع لموتها وكأن شتائمهم ستصلها، أن تعلن موقفاً سياسياً مبطناً من خلال نعوة بهذا الشكل يعني أنك جبان وموارب، مي سكاف كانت واضحة في موقفها وخرجت خارج البلاد، وظلت تصفق لثورتها عبر فيسبوك لأنها اعترفت أنها جبانة ولم تستطع العيش في المناطق التي كانت ترسل لها تحياتها عن بعد، مع أنها اعتبرتها مناطق تعزز خطها السياسي، لا أحد يعرف لماذا لم تسكن مي في درعا مثلاً ولو لسنة أو سنتين ؟ وفضلت عليها باريس حتى ماتت فيها ؟ الجبناء عادة يختبؤون وراء المواقف الإنسانية ليبثوا شيئاً مما يجول في عقولهم، هؤلاء أصحاب اللاموقف … لم تكن تأبه لهم مي لأن مجرد وجودهم في مناطق الدولة السورية كان يعني أنهم أعداؤها، فلو عرف هؤلاء الإنسانيون لاكتفوا بالصمت في حرمة الموت خير من زعيقهم كل مرة