غنين الطرب : سوريات طي النسيان

أيام زمان خاص


يغفُو العالمُ في الكُتلِ البيتُونيَّة الضّخمَة المُتقَارِبَة مُرهقِين مِن ضجِيجٍ أثقَلَ عقُولَهُم وسدّ كُلّ منَافِذِ الذَّاكِرةِ مُحاوِلاً اقتِلاعهُم مِن جذُورِهِم كُلّ يومٍ أكثَرَ مِن سابِقِه ، تتحكَّمُ فيهِم الهَوائيَّاتُ والصُّحونُ المَعدِنيَّة التي تُقدّمُ لهُم وجبَاتَ الأغاني الجاهِزة السَّريعة، والفنَّ المُعَلَّبَ المَحقُونِ بالهُرمونَات، إلّا أنَّكَ و في هذا العَالمِ الغَارِقِ بالتّعاسةِ أو الصّخَبِ والتّوتُّر، تجِدُ الحالمين بالتِقاطِ الشُّهُبِ وامتِلاكِ العَرازيل ساكِنيّ الأسطُحِ العاليةِ التي لاتَصِلُها رُطوبة، وتمسَحُ الشّمسُ جبينَهَا كمَا تُسرِحُ الرّيحُ ياسَمينَها وتُبدّلُ عِطرَ شُرفاتِها كُلّ يومٍ مُنتشِينَ حَدَّ السَّكَرِ الجَميل.
يَستطيعُ هؤلاءِ وَحدَهُم أن يعيشُوا على كَوكَبِنا وكأنَّهُم مِن كَوكَبَ آخَرْ لَهُم لُغتُهُم وحُبٌّ خَالِصٌ خَاصٌ بِهِم، لاتُقيِّدُهُ مُقتَضيُاتَ التَّطوُّرِ المَزعوم، وهُنا أتَحدَّثُ عَن المُوسيقا، هذهِ اللُّغةُ التي حيَّرتِ الجَميع، لكِنّ بَريقَها السِّحريَّ اللامِعَ الأخَّاذ بَدا يَخبُو ويَتَطايَرُ كالرَّمادِ، مع ظُهُورِ الأغانِي التي حوّلَت المُستَمِعَ إلى زُومبِي حقِيقيّ ، يُريدُ أن يسمَعَ مايُحرِّكُ جَسدهُ فقَط دونَ قَلبِهِ أو روحِهِ، فالأغانِي ذاتُ الجُمَلِ المُوسيقيَّةِ التي تَعِبَ المُلَحّنُ علَيها أيَّاماً وأيَّاماً أصبحَتْ مُمِلَّة وعُشَّاقُ القُدودِ والأدوَارِ والمُوشَّحاتِ صارُوا (دَقَّةً قدِيمَة) ، حتّى شُعراءُ اليَومِ يكتُبُونَ مِن مَللٍ وضَجَرٍ لا لِحُبٍّ أو شَوقٍ وَعتَبْ، أو يكتُبُونَ لأجلِ مَاركةٍ تِجَارِيّةٍ مُربِحَة فيَضطرُّونَ في عَصرِ السُّرعةِ لِسَرِقةِ الألحَانِ أحياناً
غولَو قَارنْنَا الأمسَ باليَومِ لاختَرقَ فِينَا الوَجَعُ النُّخاعَ وامتَدّت أذرُعُنا لالتِقاطِ الكُنُوزِ كَمَا يلتَقِطُ الحَالِمُونَ الشُّهُبَ قبلَ أن تُغلِقَ السَّماءُ كُلَّ أبوابِهَا، ذاكَ الزَّمنُ الجَميلُ المَليءُ بالكُنُوزِ ذَاتِ الأبوابِ المَفتُوحَةِ على مِصْراعَيهَا تدعُونَا جَميعاً، دَعواتَ أخيرةً كَي نَبقَى فِي خانَةِ الجَمالِ أو على الأقلِّ خَانَةَ الوَفاء، يفتَحُ أوَّلُ الأبوابِ دَرفتَيهِ بِمَا يُطرِبُ الرُّوحَ لِنبدَأَ بِكلِماتِ الأُغنِيةِ التي تقُولُ : أرَى سُليمَى بِلا ذَنبٍ جَفَتنِي … وكانَت أمسِ مِن بعضِي ومِنّي كأنّي مالثَمتُ لَهَا شِفَاهاً … كأنِّي ما وَصَلْتُ ولَم تَصِلْنِي … غَنَّتهَا المُطرِبَةُ السُّوريّةُ الرَّاحِلَة زكِيَّة حَمدان إبنَةُ حَلَب عامَ ١٩٥١ زكِيَّةُ المُلقّبَةُ بِـ أُم كُلثُوم الشَّام (١٩٢٠-١٩٨٧) وهِيَ مِن كلِماتِ الشَّاعِر نُوفَل اليَاس وألحان خالِد أبو النَّصر اليَافِي، تَتَلْمذَت على يَدِ العَمالِقَة عُمَر البَطش وعلي الدَّرويش، غَنَّت للمُوسيقار محمد عَبد الوَهَاب ومحمد القَصَبْجِي، كما غَنَّت المُوشَّحات والأدوَار والقُدُود
ومِن أُم كُلثُوم الشَّام إلى ابنَةِ الحَفَّةِ في مُحَافَظةِ اللاذِقيَّة المُطرِبَة كَرَوَان (جمِيلة نَصُّور)، غَنَّت المُوشَّحَ والقَصِيدَةَ والدّور والمُونُولُوج والأُغنِيَة الشَّعبِيَّة ، لَحَّنَ لهَا الرَائِع فيلمُون وَهبِي أُغنِيَةً وحيدَة ( من إيدُوْ الله يزِيدُو)، وغَنَّت للمُوسيقَار يحيَى السّعُودي أغانِي ( يافُؤادِي – أوَّل ماشفتَك – الحَبيب للهَجرِ مايِل)، وغَنَّت زِين يابا زِين، دخِيلَو رَبَّك، شدُّولِي الهودَج، يَاحلو، والله لاتبَع مَحبُوبِي، وأُغنِيَة يَابا يَابا وفِي رَصيدِهَا أكثرُ مِن ٥٠٠ أُغنِيَة
ويَزدَادُ الذَّهَبُ ألَقاً وعِتقَاً وجَمالاً مع ابنَةِ حَلَب الشَّهباء يُولا أسمر المُلَقَّبَةُ بِـ (بسمة) ، مواليد (١٩٣٠) ، يُولا المَطرِبَةُ والمُمَثِّلةُ التي يَتَجاوَزُ رَصيدُهَا الخَمسُمائَة أُغنِيَة، لكِنَّ الأكثَرَ تَميُّزاً في ما قَدَّمَتْهُ بسمة هوَ الأغاني المُتَرجمة للعَرَبِيَّة الفُصحَى عَلى مُوسيقَى شُوبّان وموزارت، ومن أغانِيهَا تِلكَ الليالِي وليس يُغرِيني ، لِي مَحبُوب وأُغنية بلادِي التي تقول بِلادِي يا أُنشودَة العاشِقِين … وأمن يزودُ عنِ الخائِفِين ومِن الأفلامِ التي مَثَّلَت فِيهَا، أبُو الخِيل – حارَة المِلْح عام ١٩٨٠
تَستَدرِكُ مُتَأخِّراً أنَّ بَعضَ الأغانِي التِي يُكَرِّرُ الفَنَّانونَ الشَّباب العاشقُونَ للطَّربِ غالِباً غِنائَها أنَّها لِمُطرِباتٍ قَد يكُنَّ مَنسِيَّات كَـ أُغنِيَة بتنْدَم التي غَنَّتها المُطرِبَة السُّوريَّة وِدَاد ( أُم مِصريَّة وأب حَلَبِي ) وتَقُولُ الأُغنِيَةُ التي لاتَزَالُ مُحبَّبَةً إلى قُلُوبِ الكَثِيرينَ بتنْدَم وحيَاة عيُونِي بتنْدم … بدَّك تقهرني طيّب غبلَك شي غيبَة وجرّب … لما بترجَع ياحبيِّب … ياحبيِّب شو بدّك تنْدَم، كَما ارتَبطَت أُغنِيَة ( يا امّ العَبَاية ) بالمُمَثِّلَة والمُطرِبَة السُّورِيَّة سِهَام رفقِي ( مواليد ١٩٢٢) وغَنَّت حوِّل ياغَنَّام و أنَا مانِي رايدة وأُغنِيَة ليش ليش ياولفي
أمَّا الأفلام التِي مثَّلَت فِيهَا ( بريمُو و عَودَة الغائِب ) تَنوَّعَت الأَغانِي السُّورِيَّة القدِيمَة مَعَ تَنوُّعِ اللهجَات، فغَنَّت المُطرِبَة والمُمَثِّلة السُّوريَّة يسرا البَدَويَّة اللون الفُرَاتِيّ والعِرَاقِيّ والطَّرَب ومِن أَغانِيهَا نَعسانَة وعشقْنَا غَرِيب وبالدَّهَب لو شَنشَلُونِي ومَثَّلَت في فِيلمَيّ لِقاء في تَدمُر (١٩٦٥) وفيلم عِقد اللولُو (١٩٦٤) ، ونافَسَت العَديدَ مِن نَجماتِ جِيلِها كَـ سَميرَة توفِيق . تُوفِّيَت سنة (٢٠١١) تكادُ مادَّة صغِيرَة في مَجلَّة لاتَكفِي لِذِكْرِ جُزءٍ صغيرٍ جِدّاً مِن عطاءٍ كبيرِ لايَنتَهِي ، يَتَعرَّضُ كُلَ يومٍ للتآكُلِ نَتيجَةَ حتٍّ في العُقُول، وقد استَعرَضْنَا في هذِهِ المادّةِ بَعضَاً مِمَّا قَدَّمَتهُ مُطرباتٍ سورِيَّات نتَمنَّى أَنْ نُحَافِظَ علَيهِ جمِيعَاً، فالأُمَّةُ التِي لاتُحَافِظُ عَلى إرثِهَا القَيِّمِ هِي أُمّةٌ آخِذَةٌ إلى الاندِثارِ والزّوَال

Lascia un commento

Il tuo indirizzo email non sarà pubblicato. I campi obbligatori sono contrassegnati *