لا تكتفي رحلة العودة إلى الماضي بإشباع الحنين الغافي في وجداننا أو لاستعادة ذكرى أناس أحببناهم وغادرونا إلى الضفاف الأخرى فمع كل رحلة ،نُعيد اكتشاف كنوز خبيئة لم نكن نعي بوجودها أو قد مررنا بها مرور الكرام غافلين دون قصد عن بريقها
كذا هو الحال مع الأعمال الفنية السورية القديمة أيام الأبيض والأسود والتي دائماً ومع كل وقفة تأملية نكتشف فيها ما هو متجدّد، كما البئر الذي لا ينضب من المياه الباردة
تستوقفني كثيراً شخصية أم كامل: نموذج الامرأة الدمشقية الخفيفة الظل، التي شاهدناها في العديد من الأعمال الماضية ولقد أعطاها هذا التميّز هو أن مؤدي الشخصية، التي باتت رمزاً من رموز الكوميديا إسوةً بغوّار الطوشة وحسني البورظان وأبو صيّاح وأبو عنتر، هو الفنان أنور البابا حيث قام بالدور بسبب قلة اشتراك النساء بالتمثيل في ثلاثينات القرن الماضي، إلا أن هذه الصدفة تحوّلت إلى ضرورة بسبب محبة الناس لهذه الشخصية. أم كامل صار لها حضوراً في المسرح والتلفزيون والإذاعة، لا بل كان لها زوايا اسبوعية في مجلة دنيا بعنوان: أم كامل تتحدث إليكم. الأمر الذي جعلها محط اعجاب الجميع صغاراً وكبار، ليصبح أنور البابا أول ممثل يقدم شخصية نسائية ولينتهج من بعده الكثيرون هذا النمط ويقدمون بعض المشاهد النسائية بهدف اضحاك الجمهور. البعض منهم قد نجح والبعض الآخر لم يستطع إلا أن يقدم تهريجاً لا داعٍ له، وليبقى أنور البابا أكثر الفنانين الذين خلقوا رمزاً كوميدياً ينبض بالحياة
أنور حسني البابا ( 1915- 1992 ) من عائلة دمشقية وهو ابن المطرب السوري حسني البابا وشقيق الخطّاط العربي محمد حسني والد الفنانتين سعاد حسني ونجاة الصغيرة كان من هواة العمل المسرحي ثم احترف الفن المسرحي والإذاعي عام 1939 إلى جانب عمله في رئاسة الوزراء السورية، حيث أسس فرقة هواة المسرح، انتقل إلى لبنان عام 1961 للعمل فيها ثم عاد إلى دمشق في فرقة محمود جبر المسرحية ومسرح الأخوين قنوع إلى أن اعتزل الفن عام 1991 بسبب المرض ووافته المنية في العام التالي
شارك البابا في العديد من الأفلام والمسرحيات مع كبار الفنانين أمثال دريد لحام ،رفيق السبيعي ، عبد اللطيف فتحي، اسماعيل ياسين وسميرة توفيق وغيرهم ومن الروايات الطريفة في بداية مسيرته أنه صادف وجود الممثل المصري حسن فايق في إحدى مسرحيات أنور البابا التي كان يقدمها في مصر 1959 وقد أبدى اعجابه بأم كامل اعجاباً شديداً، الأمر الذي جعله يتوسط لدى بعض الفنانين السوريين ليطلب يدها … فاستمر أنور البابا بإبداء خجله ع طريقة أم كامل في الكواليس إلى أن خلع الملاءة أمام حسن فايق وكانت الصدمة
أنور البابا أستطاع بإقتدار عبر شخصية أم كامل أن يلون بالابتسامة أيام المشاهدين كالعديد من نجوم الكوميديا السورية ولا يسعنا إلّا أن نقول أن زمن الأبيض والأسود … هو ذلك الكنز الذي يزداد غنىً كما الذهب العتيق