صلحي الوادي. السيمفونية السورية الخالدة

أيام زمان خاص

 

أسرة التحرير

هناك أناسٌ يغردون خارج سرب عائلتهم ، يبدعون في مجال لم يخطر ببال أحد من العائلة امتهانه ، وهناك أناسٌ نشأوا في كنف عائلة تشرّبوا منها مواهبهم ليطورونها في المستقبل سائرين على خطى الابداع 

هذا هو حال الموسيقي الكبير صلحي الوادي مؤسس المعهد العالي للموسيقا بدمشق وفرقة الأوركسترا الوطنية . ولكن دعونا نعود لبدايات هذا الموسيقي العظيم لنرى أية تربة زُرعت فيها امكانياته الكبيرة

ولد صلحي الوادي في بغداد 1934 ، أبوه حامد باشا الوادي كبير مرافقي الشريف حسين في الثورة العربية الكبرى ورئيس ديوان الملك عبد الله الأول في الأردن، ووالدته السورية الدمشقية هدية برجاق التي كانت تجيد العزف على الأوكورديون. اختار حامد دمشق مقرا ًلأسرته المكوّنة من ثلاث بنات وصبي واحد، نشأوا في بيئة دمشقية خالصة فتولعت الكبرى بالموسيقى والرسم والوسطى بالأدب والصغرى برقص الباليه، أما صلحي فقد تفتحت عيناه على أنغام أوكورديون والدته وبيانو شقيقته فمال إلى تعلّم العزف على الكمان

عام 1946 التحق بكلية فيكتوريا في الإسكندرية ولكن في أثناء قضاء عطلاته الصيفية في دمشق كان قد تحول من سماع أسمهان وأم كلثوم الى الموسيقا الغربية لكبار الموسيقيين العالميين وقد أحضر اسطواناتهم وقد بلغت موهبته الموسيقية أنه استطاع وضع أوراق لكل آلة موسيقية بترتيب مدروس وأدار سيمفونية براهمز الأولى وكأنه يقود فرقة كبيرة لمجموعة من أصدقائه في منزله. درس الموسيقا في الكونسرفاتوار في الإسكندرية وتتلمذ على يد أستاذين من اسبانيا وايطاليا وشارك مع الفرقة السمفونية الإسكندرية كعازف على الكمان 

تلقى صلحي الوادي أول صدمة في حياته إثر وفاة والدته بمرض السحايا وبعد تخرجه من الإسكندرية سافر إلى إنكلترا لدراسة الزراعة بناءاً على رغبة والده ولكنه تركها ليلتحق بالأكاديمية الملكية للموسيقا بلندن 1954 ثم عاد إلى دمشق مع زوجته ( سينثيا ماريون إفرت) الحاصلة على جائزة ” فرانزليت” كأشهر عازفة بيانو وقتذاك

استطاع عام 1957 في دمشق أن يؤسس فرقة سمفونية صغيرة قدمت أول حفل لها تضمن مقطوعات لبيتهوفن وشتراوس وشوبرت في بهو فندق أمية 

عاد صلحي الوادي إلى لندن لاستكمال دراستها واستقر نهائياً في دمشق عام 1960 لينال شهادة في العلوم الموسيقية والتأليف الموسيقي وقيادة الأوركسترا

اختاره الموسيقار المصري الراحل (أبو بكر خيرت) والأمين العام لوزارة الثقافة (د.يوسف شقرا) لتأسيس المعهد العربي الموسيقي الذي يحمل اسمه حتى اليوم. وقد وضع نصب عينيه بناء صرحٍ موسيقي ضخم، يبدأ فيه كل شيء من الصفر لصناعة عازفين يقومون بالنهضة الموسيقية الحقيقية

لم تبعده مسؤولياته عن التأليف الموسيقي حيث برع بتحويل الألحان الشعبية المنقولة عن الأستاذ (وفيق فوق العادةإلى ألحان عالمية متأثرا بتجربة الموسيقي المجري (بيلارتوك )، وقدمها في مسرحية يوم من أيام الثورة عام 1961 على معرض مسرح دمشق الدولي حيث لاقت نجاحاً باهراً 

1967 أسس صلحي الوادي أول فرقة لموسيقى الحجرة وقادها بنفسه على مسرح الحمراء ثم ترك قيادتها لأحد طلابه الموهوبين ، ثم ألف رائعته ( قصيدة حب ) المهداة إلى روح شقيقته الأديبة (هبة الوادي) والتي حازت الإعجاب في مهرجان التلفزيون التشيكي عام 1975

أصدر الرئيس حافظ الأسد قانوناً بإحداث المعهد العالي للموسيقا وعهد بعمادته إليه عام 1990 وبعد سنة تأسس معهد الباليه وافتتح أيضاً قسماً للغناء، ليصدر قرار رئاسي في عام 1992 بإحداث الفرقة الوطنية السيمفونية ووافقت وزارة الثقافة في الوقت ذاته على شراء أورغن من ألمانيا لتكتمل به الصفة العالمية للمعهد العالي وللفرقة السيمفونية 

باكورة حفلات الفرقة السيمفونية كانت على مسرح قصر المؤتمرات أمام ثلاثة آلاف مستمع عام 1993 . وفي عام 1995 وبالتعاون مع المجلس الثقافي البريطاني وبمشاركة فعّالة من طلاب المعهد العالي للموسيقا تم تقديم أول عمل أوبرالي في دمشق ( دايدو وإينياس ) في قصر المؤتمرات وفي المسرح الروماني الأثري ببصرى الشام وحقق نجاحاً ساحقاً

بلغ عدد الحفلات الموسيقية بقيادة صلحي الوادي في دمشق وعلى مدى عشر سنوات حوالي الأربعين حفلاً كما قدم أمسيات رائعة في بيروت والأردن والكويت وعمان وتركيا وألمانيا واسبانيا والولايات المتحدة وأرمينيا. أبرزت تلك الحفلات وجه سورية الحضاري، الأمر الذي دفع النيويورك تايمز إلى كتابة مقالات مسهبة عن الفرقة السورية مسفّهةً ما ذهب إليه الإعلام الأميركي المسيّس ضد سورية واصفة عازفات وعازفي الفرقة السورية وأدائها بأنها خير سفير لسورية الحضارة

أصيب الموسيقار صلحي الوادي بنزيف دماغي أثناء تقديمه الكونشرتو الثالث للبيانو لبيتهوفن في قصر المؤتمرات فهوى من على منصة القيادة، هذا النزيف ألزمه الفراش لغاية وفاته في ايلول عام 2007

إبان مرضه وتقديراً من وزير الثقافة د. محمود السيد أُطلق اسمه باحتفال رسمي وبحضوره على المعهد العربي الموسيقي

حصد صلحي الوادي العديد من الجوائز التكريمية والعالمية لعل أهمها وسام الاستحقاق السوري من الدرجة الممتازة عام 1992

الدكتوراه الفخرية من جامعة يريفان في أرمينيا عام 1999

الدكتوراه الفخرية من الأكاديمية الروسية للعلوم والفنون عام 2000

وسام القديس بطرس وبولس من بابا الفاتيكان يوحنا بولس الثاني عام 2001

بالإضافة إلى العديد من الجوائز والأوسمة 

أثرى صلحي الوادي المكتبة الموسيقية بأعمال لم يتناولها غيره من المؤلفين العرب على أنواعها

من أعماله الأوركسترالية المتتالية الدرامية _  قصيدة حب _ الافتتاحية السمفونية وكونشرتو للأوركسترا وأعمال أخرى

وضع خلال مسيرته الموسيقى التصويرية لعدد من الأفلام السينمائية منها : سائق الشاحنة،  مطاوع وبهية، اليوم الطويل، حيث فازت موسيقى هذا الأخير بجائزة ( كارلوفي فاري ) في تشيكوسلوفاكيا بالإضافة لعدد من مسرحيات شكسبير ومسرحية يوم من أيام الثورة ومسرحية براكساجورا كما وضع خمسين مقطوعة للبيانو لموسيقى الحجرة

كرّمته دمشق ضمن مبادرة دمشق عاصمة الثقافة العربية عام 2008 بالتعاون مع مؤسسة (ايكوم) للتبادل الثقافي في حوض البحر الأبيض المتوسط والهيئة العامة لدار الأسد للثقافة والفنون والمفوضية الأوروبية وغيرها من المؤسسات الاقتصادية والثقافية . استمر هذا التكريم أسبوعا كاملا عزفت من خلاله بعض مؤلفاته لموسيقى الحجرة الغير معروفة جماهيرياً 

أشادت به (مارغريت دشينو) مديرة مؤسسة (ايكوم) والمايسترو الايطالي ( أنجلو غورانيا ) الذي تولى قيادة الأوركسترا التي عزفت أعمال صلحي الوادي وقال عنه: كان صلحي الوادي رجلاً واسع المعرفة موسيقياً حساساً،  نلمس في موسيقاه المثيرة إلمامه بعلوم الموسيقى الكلاسيكية والثقافة الغربية إضافةً للعربية مع براعة بين لغتين مختلفتين وإنني أحمل أشد الفخر والامتنان لكوني أشارك في تكريم موسيقي عربي كبير 

لقد كان صلحي الوادي بحق … السيمفونية السورية الخالدة