كركوز وعيواظ… خيال الظل والخيال السارح عبر التاريخ

خاص فنون مسرح

أسرة التحرير

 

يتهافت الأطفال إلى الساحة العامة أو المقهى ليفترشون الأرض أو يلتصقون بكراسيهم، جلّ اهتمامهم منصوب على تلك الستارة البيضاء وما يجري ورائها من قصص وحكايات، هي الحد الفاصل بين حياتهم وخيالهم الذي يبحر بعيداً مع سذاجة كركوز وذكاء عيواظ. ليذهب بعدها الأطفال إلى منازلهم ويأتي الكبار من بعدهم بقصد جلسات السمر، يمتزج فيها دخان النارجيلة السابح في الهواء مع ضحكاتهم  العفوية على تلميحات أبطال خيال الظل على الوضع السياسي والاجتماعي 

خيال الظل هو فن التمثيل الغير المباشر ومن أهم الفنون الشعبية التي يصعب تحديد نشأتها بحكم تلقائيتها وعفويتها الناتجة عن الوجدان الجماعي. وبالرغم من صعوبة تحديد الموطن الأصلي لهذا الفن إلا أن المستشرقين  قدموا دليلين يؤكدان نشأته في بلاد الهند: الأول مباشر مأخوذ من بعض النصوص السنسكريتية لأغاني الراهبات والثاني وهو دليل غير مباشر  يتوسل أصل المواد المصنوعة منها الدمى من جزيرة جاوه

انتقل مسرح خيال الظل من بلاد الهند مروراً ببلاد فارس ووصولاً إلى مصر منذ العهد الفاطمي ومن بعده الأيوبي والمملوكي ومنها انتقل إلى باقي البلدان العربية كما أن الحكم العثماني الذي عرف هذا الفن في مصر قد نقله إلى العالم الغربي. وبالرغم من شعبية وبساطة هذا الفن إلا أنه استطاع أن يحاكي الواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي بقصص وحكايات  صارت نصوصها وثيقة هامة من وثائق العصر

وكما هو معروف فإن مسرح خيال الظل يحتاج للصورة والضوء معاً تبعاً لمكان محكم  يمكن أن يركز الضوء فيه على تمثيل الدمى، لهذا فقد اتسم بالمرونة وسهولة إقامته في أي مكان فصار من وسائل إحياء المواسم كحفلات الزواج والختان وما إليها. أما من يقيم هذا الفن فندعوه بالمخايل والمخايل المحترف هو الذي يصنع ألعابه بيديه ولعل أشهر مخايل في مصر ارتبط هذا الفن باسمه هو ابن دانيال الموصلي (1250 – 1310)الشاعر الساخر  

استلهم كل بلد قصص مسرح الظل من الذاكرة الشعبية والموروثة والتاريخية المتعلقة بالبلد، عدا ابتكار قصص جديدة تحاكي الواقع، ولبلاد الشام وتحديداً سورية لها حصة كبيرة من هذا الفن الذي انتشر في كل من حلب ودمشق وحمص وطرطوس 

على مدى سنوات طوال بقي هذا الفن مالىء الدنيا وشاغل الناس وقد تعاقب عليه المخايلون وأضاف كل منهم من شخصه ولمساته ففي مدينة دمشق عرف أبو عزت وأبو صياح وأبو شاكر وفي حلب مرعي الدباغ أما في الساحل السوري وجزيرة أرواد عباس فتوح وأبو أنيس وسليمان معماري وغيرهم

يعد كركوز وعيواظ أيقونة مسرح خيال الظل والثنائي الذي ارتبط اسمهم في أذهان الناس لعقود طويلةفكركوز هو ابن الشعب البسيط الطيب القلب الذي يصدق كل ما يقوله له عيواظ وأحياناً يشترط شروطاً لتنفيذها إلا أنه يقع في المقلب، أما عيواظ فهو ذكي مخاتل خبيث جريء بارد الدم يحيك لكركوز المقالب وهو أكثر خبرة منه بالحياة، درس في الكتّاب فبدأ يسرد الأمثال الشعبية ويقصّ قصصاً ويقدم نصائح ويدّعي معرفة كل شيء

ورغم أن مسرح خيال الظل السوري غني بشخصيات جمة منها قشقو، طرمان، قريطم وغيرهم لكل منهم صفات معينة من حيث الشكل تميز بها إلا أن هذا الفن بدأ بالانحسار تدريجياً مع دخول التقنيات الحديثة من سينما وتلفزيون ولم يبقَ إلا القلّة القليلة من المخايلين في دمشق.

وأعلنت منظمة اليونسكو إدراجها لهذا الفن على قائمة التراث الثقافي الغير مادي حيث أعدت الأمانة السورية للتنمية وهي منظمة سورية غير حكومية تعنى بتمكين الأفراد وإشراكهم في التنمية الاجتماعية، ملف ترشيح مسرح خيال الظل لقائمة اليونسكو على مدى 4 سنوات

أكثر من ابتهج بهذا الخبر هو شادي حلاق (43 عاما) المخايل الوحيد الذي بقي في التسعينات يمارس هذا الفن ويصنع ألعابه بنفسه من جلد البقر، لغاية اندلاع الحرب عام 2011. حيث توقف بشكل نهائي ولكنه الآن بصدد إحياء مسرح خيال الظل وإقامة عروض في عدة مناطق في سورية

على الرغم من التطور الكبير الذي شهدته معظم الفنون إلا أن لمسرح خيال الظل خصوصية  قد لا يأتي مثيلها، فهذا الفن قد جعل للظل خيالاً محدوداً على ستارة بيضاء وخيالاً لا حدود له في فكر ووجدان كل من عاصروه