لم تكن الأعمال الفنية ذات الرسالة الإنسانية والإجتماعية المتدثرة بعباءة الكوميديا والحس الساخر هي حكراً على المسرح والسينما والدراما، فقد حملت الأغنية أيضاً مسؤولية تجاه الناس للتخفيف عن أعبائهم وانكساراتهم جاعلةً من الماسأة ملهاة على مبدأ المضحك المبكي في صياغات هي أقرب لا بل قد تكون هي نفسها الكلام الدارج ، هذا ما عُرف بفن المونولوغ الشعبي. لكن دعونا قبلاً أن نعرّف باختصار ما هو فن المونولوغ ومتى ظهر في سوريا
المونولوغ كنظم هو شعر يعتمد على تفعيلات سهلة من بحور الشعر وذو قواف واحدة أو متعددة ويجمع بين اللغة الفصحى والعامية. وقد دخل هذا الفن الأوروبي الى سورية في زمن الاستعمار الفرنسي ( مونو- لوغ بالفرنسية تعني الأداء المنفرد )وشاع من خلال أغاني تينوروسي ورينا كيتي. والمونولوغ هو أول احتكاك موسيقي فعلي بين الغرب وسوريا
المونولوغ نوعان، رومانسي ويعبّر فيه المغني عن عواطف المحبين وتكريس الطبيعة للتعبير عن هذه العواطف. وهناك الشعبي الذي يعتمد على أزجال سهلة الحفظ تتناول الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية بطريقة بنّاءة إلا أن بعض الفنانين خرجوا عن الهدف الأساسي للمونولوغ الشعبي لذا صار له نوعان انتقادي وفكاهي والثاني هو لمجرد إضحاك الناس ليس إلا
ولهذا الفن في سورية روّاده الذين رسّخوه عميقاً في أذهان ووجدان الناس أمثال عبد الله المدرس وحاتم نصري وغيرهم ولكن عندما نتكلم عن المونولوغ الشعبي تذهب بنا الذاكرة فوراً إلى أشهر من جعله يزدهر وهو سلامة الأغواني ( 1909 – 1982 ) حيث تبوأ فن المونولوغ لنقد الاستعمار الفرنسي ثم تعددت أغراض فنه للتعرض بطريقة غير مباشرة للخلاص من الاحتلال لأنه اصل التردي بالأخلاق وفساد الحكم، الأمر الذي دفع السلطات الفرنسية لاعتقاله
البيت بيتنا والأرض لأبونا
بأنو عين جايين تنهبونا
حكم علينا الفرنساوي
ربي منو تنجينا
عمل سلامة الأغواني في بداية حياته سائقاً على خط دمشق بيروت قبل أن يغدو موظفاً لدى وزارة الأشغال وقد نظم مونولوغ شاع كثيرا في الثلاثينات والأربعينات
نحن الشوفيري نحن يا جدعان
منركب بالماكينة أشكال والوان
ركبنا ناس كتير وعرفنا مين المير
ومين بيسوق الحمير ومين قاضي نسوان
بعد الجلاء انبرى الأغواني إلى نظم مونولوغاته التي تعكس كل ما يحدث على الساحة العربية وكانت تجد طريقها سريعاً إلى الجماهير . فقد غنى للجلاء ولثورة آذار والفلاحين والعمال في عيدهم وغلاء المعيشة والكثير الكثير من المونولوغات الانتقادية السياسية اللاهبة والتقدمية لتشمل الأوضاع في العراق وتونس وغيرها من البلدان العربية
في المرحلة التالية انتهج الفنان رفيق السبيعي ( 1930 – 2017 ) متأثراً بأعمال الأغواني نهج المونولوغ الناقد اجتماعياً من خلال الشخصية التي رافقته في معظم أعماله السينمائية والتلفزيونية وهي شخصية أبو صيّاح
تلك الشخصية التي رصدت بسخرية التغييرات التي طرأت على الأجيال الجديدة بنمط تفكيرها ونظرتها إلى جوانب الحياة والقيم التي صارت هشّة ( لا تدّور ع المال )، (يا ولد لفلك شال ) والمونولوغ الشهير ( شرم برم كعب الفنجان ) والكثير غيرها
شرم برم كعب الفنجان يا حبيبي ملّا شبان
مدري شباب مدري نسوان شرم برم كعب الفنجان
شرّف سيدي جنتل ليدي شورت وميني … مكسي وميدي
خفّ ألق فن المونولوغ الشعبي لأسباب عديدة منها قلّة نجوم هذا الفن، غياب المسرح بشكل عام وتوجه الجمهور للأعمال التلفزيونية الكوميدية واللوحات الانتقادية الساخرة. ولكن لا بد لنا من الإشارة للفنان محمد خير جراح الذي يسعى جاهداً منذ العقد الماضي بإعادة إحياء هذا الفن الذي يراه ضرورياً لإغناء الخيال الشعبي وقد صرّح حسب وجهة نظره بأنه : من الضروري أن يكون المونولوجيست ممثلاّ ليكون قادراً على تجسيد الحالة وفي هذا الفن لا يُشترط أن يكون مطرباً، بل عليه أن يقدمه بالشكل الموسيقي السليم. وقد أصدر عدة أغان بمواضيع متنوعة عن مدينة حلب ( محسوبك أصله حلبي )، ( الأكلات الحلبية ) وعن الأزمة السورية ( مدوا الأيادي ) وغيرها من الأعمال
يبقى فن المونولوغ راسخاً في البال على أمل الخوض في بحره أكثر فأكثر لما يحمل من عفوية وبساطة نحن بأمس الحاجة إليها ومضمون عميق يرافقنا أينما كنّا، في زمن صار فيه الابتذال والتهريج هما أسياد المواقف الكوميدية