أخاذةٌ تلك الرّوح التي تتماهى مع الوجع فتصير قادرة على ترجمته بعد ملامسته وكأنّها الأنا المُصاغةُ منها كلّ ذاتٍ أينما كانت وحيثما حلّت, تَدخُلُ عوالم الموسيقى من دفتيّ باب الشّغف فتهطلُ الألحانُ مقطوفةً من ثُريّات المعرفة والحسّ الإنسانيّ, إنّها روح الملحّن السّوري نوّار أحمد الذي يُعرّفُ عن نفسه بأنّه الفنان المُلتزم بكلّ ممنوع والذي التقيناه في مجلة أورنينا ضمن حوار ممتع حول تجربته الفنيّة الموسيقيّة ورؤيته للفن الملتزم بالقضايا الإنسانيّة والمجتمعيّة
الفنان نوّار أحمد من مواليد طرطوس, صافيتا وله العديد من الأعمال الموسيقيّة الغنائية التي تتميّز بالطّابع النّقديّ البناء الميّال للسّخرية والإيحاء بأسلوبيّة تُغَلّفُ الكثير من الخبرة الحياتيّة والإحساس المرهف فعدنا معه إلى البدايات التي تشكّلت فيها موهبته الفنيّة لنقف على المحفّزات لها والأنواع الموسيقيّة التي كانت تستهويه والظّروف التي أدّت إلى تنامي اهتمامه بالموسيقى ليتّخذ لنفسه مشروعه الخاص الحالي فيما بعد
يقول أحمد أنّه مقطوع من شجرة “فنيّا” ففي بيئته الأولى لم يكن في محيطه القريب من يتمتّع بالموهبة أو يُمارس الموسيقى وهذا ما منع التّأثير المباشر الذي تلعبه الأسرة لكنّ غيابها الجزئيّ عن موهبته الموجودة في الأصل ناب عنه المدرسة بأنشطتها الطّلابية والشّبيبيّة فغذّت وحفّزت الموهبة حتّى تبلورت وتطوّرت مع سماعه في مرحلة الشّباب لذلك النّوع الخاصّ من الفنّ الذي يقدّمه زياد رحباني والشّيخ إمام فنضجت تجربته بإطارها الطّبيعي وأثمرت عن مشروع فنيّ ثريّ يصل عدد الأعمال الفنيّة فيه إلى الثّمانين عملا منها: آيات شامية, دولارات, مش بإيدي, شي بيطوش, يا حكومة, فات المعاش على الإنعاش, يا صرختي وينن؟، الجوع مش كافر وهي الأغنية التي ردّ فيها احمد على أغنية زياد رحباني (أنا مش كافر بس الجوع كافر) والتي يقول في مطلعها
الفقر مش كافر
الجوع مش كافر
كافر اللي بيتاجر بهمّ العباد
عم تسمع يا زياد؟
حدا حده يسمعه
يعمل الفنان أحمد اليوم ساندا يده على كتف ثقافته الحياتيّة والمعرفيّة والإنسانيّة المختَزِنة للكثير من الوجع, لكنّه يُصرُّ على تحويل ذلك الوجع إلى قوالب موسيقيّة مفعمة بالحسّ الإنسانيّ المرهف الذي يفرده على اتساعه ألحانا وكلمات ليثبت مقدرةً نادرة على توظيف المكنون النفسيّ لديه ليحاكي مكنونات المتلقّي منطلقا من همّه الذّاتيّ ومعتمدا على ألمه الشّخصي وفلسفته الخاصّة التي ظهرت جليّة بأغنيته (مش فقير) التي يُنصِفُها لحنها وتقول كلماتها
مش فقير الفقير اللي ما معه
مش فقير الفقير الـهمه بيوجعه
مش فقير الفقير اللي بفقره بيحتمي
مش فقير الفقير الـمن آه بيرتمي
الفقير بس الفقير الـما بيحمل فقره
سيف وعالناس بيرفعه
يرى أحمد أن الوجع السّوري الذي نزف خلال الحرب قادر على إنتاج طاقات فنيّة مهولة مرجّحا باعتقاده أنّ الطّاقات لا بدّ موجودة وقد خُلِقَت لكنّها كامنة مؤكدا أن ما يحصل بعيد عن منطق الطّبيعة الذي يتلخّص بأنّ الإبداع يُخلق من رحم الأزمات كما أثبتت التّجارب الفنيّة العالميّة والعربيّة, لائما بذلك الإعلام المحليّ الذي يكرّس نوعيّة سوقيّة من الأغاني على حساب الأغاني الملتزمة بوجع المواطن ووضعه المعيشيّ والإجتماعيّ المتناسبان طردا أو عكسا مع أخلاقه وروحه الوطنيّة, هذه الأغنيات التي يُغيّبُها الإعلام المرئيّ والمسموع مستعيضا عنها بأغانٍ فارغة المضمون أو بأحسن الأحوال أغانٍ تُدرَجُ في خانة الإلتزام لكنّها ليست سوريّة القضيّة أو الهمّ وتلخّص هموما عربيّة قد تأتي في مراتب متأخرة عن همّ المواطن السوريّ حاليا
يقول أحمد أنّه يحمل الهمّ اليوميّ الذي يحمله الشّعب السوري ككلّ وبتعبيره عن هذا الهمّ يأخذ موقعه الطّبيعي ضمن مشروعٍ يهدف من خلاله الوصول إلى نقاط وجدانيّة تتوارى خلف العتمة فيضيئها وترا ونغمة, فكرة ومغزى, فيهدف بذلك أن ينوب عن احساس المتلقيّ فيما يجول بذهنه ووجدانه حين تتكلم موسيقاه فيستعيض الوجع بفرح القدرة على التّعبير عنه
بالنّسبة لمشوار أحمد الفنيّ فهو مشوار ليس بقصير صنع خلاله تاريخا يحمل بصمته الخاصّة وبإمكاناته الشّخصيّة غير مدعوم بأيّ جهة إنتاجيّة أو منبر إعلاميّ, وغالبا ما ينظر إلى هذا التّاريخ بعين النّاقد, غيرَ موارب نفسه فيُبدي عدم رضاه عن بعض الأعمال التي يجتهد في تجديدها وإعادة بناءها لتنتمي إلى باقي التّجربة التي تقنعه بصدقها وحقيقيتها, وهنا نقف عند تلك المفارقة القاسية (غير صعبة التّصديق في الوسط الفني) التي صادفت الملحن أحمد في بداية مشواره الفني في سبعينيات القرن الماضي, حين قدّم أغنية (ترغلي) للفنان السوريّ جورج وسوف وهي من كلماته وألحانه فقدّمها الوسوف (بموافقة أحمد)إلى الملحن جورج يزبك والشّاعر شفيق المغربي ليعدّلاها ويهذّباها آنذاك وفق خبرتهما الموسيقيّة لتظهر بشكلها الذي نعرفه اليوم وتبقى الأغنية باسميهما دون ذكره مطلقا
ولم تتوقّف المفارقات مع الفنان أحمد بل تستمرّ بتعذّر مشاركته بالعديد من المهرجانات العربيّة التي يدعى إليها بسبب غياب الدّعم اللاّزم من الجهات المعنيّة لإتمام تلك المشاركات التي لا تتمّ ولا يتمّ بعد خسارتها تعويضه عنها محليّا في فعاليات مشابهة, بل وما يزيد عتبه هو تعتيم الإعلام المحليّ على ما يحقّقه من انتشار في الخارج, فقد حاز احمد بأغنيته (خلينا عتواصل) على أعلى نسبة مشاهدة واستماع لأغنية عربيّة على موقع أوروبي, فقد حصلت على حوالي 611000 مشاهدة وأكثر من 17000 مشاركة أغلبها من مصر ودول المغرب والإمريكيتين, وهذا ما لم تستطع أسماء هامّة أخرى في الوسط الموسيقيّ من تحقيقه في الوقت الصّعب الرّاهن بالرّغم من تميّز تجربتهم وريادتها, وهذا ما أكّده أحمد بالثّناء على عدّة مشاريع فنيّة موسيقيّة مهمّة محليّة, ولعلّ هذا الأمر من ممّيزات أحمد فهو لا يُحابي بل يتكلّم صادقا عن مودّته وتقديره وقبوله للآخر مهما اختلف الَمنبت طالما أن مصبّهُ هو بحر الإبداع الملتزم الجادّ نفسه, لأنه مؤمن بشدّة بأنّ هذا النوع من الفن هو القادر على استحداث التّغيير الإيجابيّ المطلوب في مجتمعنا المعطوب حاليا