رنا ريشة” ممثلة استثنائية في السينما السورية”

خاص سينما فنون

بدأ فن التمثيل السينمائي بالتبلور في مرحلة الستينات من القرن الماضي، بِحكم تطور القوة الجمالية لِفن السينما وتنوع أنماطه في اللغة والفعل والموضوع، والتواصل الكبير المُحقَق بين الشخصيات والمُشاهد عبر الأفلام، وبالتالي إمكانية تقبل طيف أوسع من أساليب التمثيل والشخصيات المتباينة، مما أوجد ضرورة لِصقل التشخيص – الاسم القديم لِفن التمثيل – ودراسته بِتحليل ميزاته وخصائصه وتكنيكاته وتصنيف أنواعه وفقاً لإمكانات الممثل وخصاله المؤثرة، وبناءً عليه؛ تمَّ إنشاء قسم ومنهاج خاص بهذا الفن في الأكادميات والمعاهد السينمائية حول العالم

وفي سوريا، تغيب الدراسة الأكادمية للسينما عن النظام التعليمي لهذا البلد، ويتم استقدام ممثلي المسرح والدراما التلفزيونية للعمل في السينما، وهي حالة غير صحية، فَالتمثيل السينمائي هو عمل ضمن إطار جو تكنيكي مختلف عن أسلوبية الأداء في المسرح والتلفزيون، نتيجة الاختلاف الكبير بين المجالات، من حيث الجو التقني لصناعة السينما، وخضوع الممثل لزمان ومكان علاقته مع الكاميرا، وضرورة الاستغلال الدقيق لِحضوره الذاتي والجسماني لتقديم صورة الشخصية، وموازنة إيقاعاته الحسية والحركية وفق الجزء الزمني المحدد لكل لقطة سينمائية، بالإضافة إلى عوامل عضوية خارجة عن إرادة الممثل تتعلق بالشكل والقبول

ومع غياب هذا الاختصاص الأكاديمي هنا، اجتهد الممثلون السوريون ذاتياً، وحاولوا اكتساب الخبرة، فَقدم بعضهم عدة استثناءات للأداء السينمائي السليم، بينما بقي كثيرون متأثرين بالمسرح والدراما التلفزيونية، ومع قلة الاستثناءات؛ تُعتبر الممثلة رنا ريشة (1982) حالة استثنائية في التمثيل السينمائي السوري، لتكون على رأس القائمة في صحة وسلامة وتمكن الأدوات، عبر أداءاتها في مجموعة كبيرة من الشخصيات في الأفلام الروائية القصيرة والطويلة

انطلقت رنا ريشة في عالم السينما مُبكراً، فَحققت أول ظهور لها على الشاشة الكبيرة في الروائي الطويل «حراس الصمت» (2010، 114 د) للمخرج سمير ذكرى، لتتوالي بعده شخصياتها السينمائية، ومنها في الروائي القصير: ضجيج الذاكرة، توليب من بلادي،جوليا، دوران، السيناريو الأخير، … وغيرها. فَحققت حضوراً لافتاً حملت بِه تلك الأفلام، وكانت في بعضها العنصر الإيجابي الأهم، كما شاركت في الروائي الطويل بِعدة شخصيات ناجحة ومؤثرة، ومنها : الرابعة بتوقيت الفردوس، بانتظار الخريف، حرائق، حنين الذاكرة

لدى متابعة وتحليل أعمال الممثلة؛ نكتشف أن براعتها السينمائية حاصلة من القدرة على كشف ازدواجية الشخصيات من أجل تطوير موضوعات وأفعال حاذقة، والإيحاء بمجموعة تناقضات في ذات الشخصية، تزاوج بين الذكاء والملامح الجسدية والحساسية المرهفة في أدائها، إنّها ممثلة سينمائية تستأثر باهتمام المشاهد، تنبع أفكارها من طبقات من العواطف، وتخلق تواصلاً تأملياً، كما تبعث جدية إزاء ما يجري لها كَشخصية ضمن قصة
فهمت التكنيك السينمائي جيداً، فَحافظت على حرية حدسها، وعلمت أن الحدس للممثل السينمائي؛ واحد من القدرات الذهنية للمزج بين الانطباعات المتباينة كي تصبح فهماً جاهزاً للفكرة والعاطفة والموقف، وبالتالي؛ حدسيتها في عملها جعلتها أكثر حيوية أمام الكاميرا، فَأدقنت تضمين مهاراتها؛ بتفريغ ذاتها وعدم التوجه نحو منطقة ليست من حقها كَممثلة على الشاشة الكبيرة

لِتأكيد استثنائيتها، أتوقف عند 3 شخصيات سينمائية لها، في تحليل حسّي وبايوميكانيكي لأداءها

هي «ديرسم» في الروائي الطويل «الرابعة بتوقيت الفردوس» (2014، 120 د)، للمخرج محمد عبد العزيز، امرأة كردية مريضة، تعكس مع عائلتها انفعالية البحث اليائس عن الهوية، شاهدنا الزوجة والأم في 7 ساعات – زمن الحدث الفيلمي- متعبة ومرهقة نتيجة اشتداد مرضها وحاجتها للعلاج العاجل، فرضت طبيعة الشخصية على الممثلة السكون الحركي، مما أفقدها بعض أدوات الجسد، وجعل الأداء أكثر صعوبة، لذا لجأت الممثلة لِاستجابة عضوية للبيئة، والاستفادة من الطاقة الحيوية والهالة المحيطة بِها للغوص في تحليل وتفصيل الشخصية، فَأجادت الاشتغال على تكوينات الوجه والعامل الصوتي، عاكسة بِوجهها الحالة الذهنية والعاطفية لِرهافة كامنة في الشخصية، عبر استجابة عينيها المرهقتين للمحيط، وحركة الشفاه المدروسة بِعناية، كما اعتمدت في حواراتها القليلة؛ سمة صوتية مميزة، ونسق إلقاء أجادت فرادة الشخصية، وثقلها الدرامي بتعمق وتعقيد

وفي الروائي القصير «جوليا» (2014، 16 د)، للمخرج سيمون صفية، نرى المرأة المشدوهة حد السقم والمتلبسة برغبة في الانتحار بعد تعرضها للخطف والاغتصاب من قبل مجموعة إرهابية. شخصية بأبعاد سايكولوجية عاطفية خاصة، قدمها المخرج -وفق رؤيته- أيضاً ضمن إطار مكاني واحد، وكبر التحدي للممثلة بِلجوء المخرج لتقديم مشاهد بِكاميرا خاصة بالمراقبة ضعيفة الدقة وغير منصفة لها في ثبات وبعد زاويتها وحجم لقطتها، واعتماده نوع ودرجة إضاءة صعبت المهمة عليها، بالإضافة لغياب حوار خاص بالشخصية، فَبلغ التركيز على الجانب (النفس/جسماني) للممثلة أقصى مراحله، نرى في سياق الفيلم تنوع الأداء بين الهدوء والاستكانة الحذرة النابعة من حساسية مفرطة لحالة اليأس الحاصل، أدتها الممثلة بِجودة في التعبير، والانفعال المتصاعد من صراع داخلي ذهني وعضوي وارتجاف عاطفي، اعتمدت هنا عبر فهمها العميق للفكرة والعاطفة والموقف على الجسد والصوت أيضاً، فَقدمت الحالة عبر ارتجاف البناء العضلي لِجسدها بالكامل، وحركات انتقالية متوترة لليدين والساقين، مع تقوس للظهر ينم عن حالة مفرطة من عدم الأمان، مُرفق بهمهمات موتورة وأنفاس متقطعة بِنزعة انفعالية

أما «خولة» في الروائي الطويل «حرائق» (2017، 120 د)، للمخرج محمد عبد العزيز، الأرملة والأم الخارجة من السجن لتدخل في مطاردة لاهثة مع الثأر المترصد بها، شخصية متواجشة وجدانياً، توكلت الممثلة مهمة أدائها لتكون الأكبر مساحةً والأعقد تركيباً لها حتى الآن، فَقدمتها بِنضج واقتدار وضعها بين أفضل الأداءات النسوية في السينما السورية، فَفي مزج بين النزعات الطبيعية والواقعية؛ عملت الممثلة على صقل وإيضاح الشخصية، بِتجسيدها وفق سلسلة من التطورات العاطفية الأصيلة والعضوية، ابتدأت مع خروجها من السجن، تمشي بِإيقاع وثقل في الخطوات، محدقة في الوجوه في محاولة لتحليلها بدقة مؤرقة. اشتغلت الممثلة في أداء مشاهدها على معرفة عميقة في عناصر التمثيل السينمائي لإعطاء الإقناع، فالكتفان محنيتان، والخطوات متسارعة لجسد مندفع غير منتظم الحركة، حركة الساقين متوترة، والورك مشدود ومؤثر على الجذع الأعلى، مما يوحي بمواربة بين الخوف و التحدي القلق، أما في اللقطات القريبة والمشاهد الصامتة تحديداً؛ نلمح انعكاس الحالة على الوجه بِدقة وبراعة، يتجلى ذلك واضحاً في العينين، فَانعكاس الضوء لِعيني الممثلة يوحي بالهشاشة الداخلية الحاصلة، وتوحي تعبيرية انقباض واسترخاء العضلات المسيطرة على العينين ولواحقهما؛ عن مراحل تطور ونمو الصراع الباطني للشخصية، كما نرى توظيف شكل الشفتين ومدى تسديد التحديق والحنجرة المشدودة في مشاهد الذات المصممة، كل ذلك جاء بتوليفة حسية حركية لأداء الشخصية أبهرت المشاهد واستكنه دوافعها وأبعادها

هي حالة نادرة عن التمكن والإقناع السينمائي، فَالممثلة الحسناء صاحبة العينين الخضراوتين؛ أسرت المشاهد بجمال الأداء وصدق التعبير، وأصبحت علامة فارقة للتمثيل السينمائي في السينما السورية