حين تصنع فيلماً؛ عليك أن تُشعر المتلقي بالانتماء لبقعة معينة من هذا العالم أياً كانت جنسيته وأينما تواجد، و لأن تصنع فيلماً عن حرب لازالت مستمرة ؛ فأنت أمام مهمة دقيقة و مسؤولة، فإما أن تنهار بقطبيتك وتصوير آرائك أو تعلو بأمانة تعاطيك مع الحدث وسعيك لِلم الشمل والبحث عن المشتركات بين الطرفين ، فالسينما وثيقة فكرية بصرية ؛ لا تصطفي من أفلامها إلا ما يروي الإنسان بصدق؛ دون روايات الطرف الواحد والتدليس السياسي التي تتزاحم على الشاشة الكبيرة، ولطالما كانت السينما النقية هي الحبل السرّي الذي يربطنا كَبشر
يسعى لذاك الربط الإنساني الفيلم الروائي القصير “الحبل السرّي” (2018 ، 20 د) للمخرج الليث حجو (1971) والكاتب رامي كوسا (1989) باكورة أعمالهما السينمائية ، من انتاج الاتحاد الأوروبي عبر منظمتي (مدني) و (البحث عن أرضية مشتركة) بالتعاون مع شركة سامة للإنتاج و التوزيع الفني، ويروي حكاية سوريّة لزوجين يقطنان إحدى المناطق الساخنة التي يسيطر عليها قنّاص يترصد العابرين ، وفي هذا الحصار المضني بعبثيته وما يحوطه من دمار ودماء ، يأتي مخاض مبكر للزوجة الحامل (ندى : نانسي خوري) ، ومع تعنت القناص ؛ يستحيل مرور القابلة لتوليد الزوجة وتبوء بالفشل محاولات الزوج (وليد : يزن خليل) والجيران لإقناعه بالسماح لهم بالمرور ، فيجد الزوج نفسه عاجزاً أمام آلام زوجته ، مما يضطره لتوليدها بنفسه داخل صندوق سيارة مُتبِعاً إرشادات القابلة و الجيران الواقفين على الطرف الآخر من الشارع ، وينجح في ذلك ليطلق في نهاية الفيلم شتيمة لائقة بمن اقتنص الإنسانية من داخله ليقتنص حيوات الأبرياء
يبدو تزامن المخاض مع الحصار حدثاً مكرراً في عدة أفلام حاكت حالات السوريين في الحرب ، لكن الكاتب هنا يذهب أبعد من الحدث ، يتعاطى مع الحصار انطلاقاً من مقومات الإنسان للبقاء والتي بات الحصول عليها أمراً عسيراً ، فَتُضطر الزوجة على أثره لتوفير الماء بتجميعه بعد استعماله الأول لأغراض لاحقة ، كما تقص شعرها لتوفير كميته حين الاستحمام ، أما الزوج فتراه يجمع الأعشاب و يلفها بالورق للحصول على سجائره ، ورغيف الخبز يلاقي الرصاص حين يُبعث هديةً لمن يشتهيه
يأتي المخاض وسط هذا الحصار، المخاض لولادة جديدة تتحدى الموت المحيط ، إنسان مقبل على الحياة في الوقت الذي تُقتل به ، يخرج من رحم امرأة سامحت العالم على خطاياه لتهبه قطعة منها تنبض بالوجود ، ترتبط به بحبلٍ سرّي لتعطيه و تهبه الاستمرار
لم يعنى الفيلم بالمعنى المادي لاسمه ، بل كان دعوةً للتواصل بين السوريين ، وربطهم إنسانياً للبقاء ، فنرى ذلك الحبل الذي يربط بيوت الجيران لتبادل حوائجهم من طعام و سواه كَمشيمةٍ أصيلة الموروث وصبغة سائدة في المجتمع ، وما لهفة الجيران على الطرف الآخر من الشارع و أصواتهم المتواشجة بقلق وأسىً على ألم الزوجة ؛ إلا صورة حبل سريّ يربطهم بأبناء وطنهم مقاوماً رصاص الفناء
صُنِع الفيلم بعد ورشات خضع لها الكاتب والمخرج قامت بها منظماتان غير حكوميتان بإشراف الاتحاد الأوربي ، تهدف إلى تهيئة كوادر لانتاج أعمال فنية مكرسة لتمكين دور المرأة ، وتولت تلك المنظمات انتاجه بالإضافة إلى 15 فيلماً آخر تمَّ قبولهم ، وتتميز الأفلام بخروجها عن حالة سينما المؤلف السائدة في السينما السورية منذ عقود مع استثناءات معدودة ، كما تتميز باستقلاليتها ؛ مما أعطاها الحرية في الطرح والرؤية وأبعدها عن قيود المؤسسات الانتاجية و أهوائها ، و تعد اليوم السينما المستقلة السورية حلاّ إسعافياً استطاع التفرد والوصول إلى مساحات سينمائية أوسع كما استطاعت تحقيق مشاركات و جوائز تُحسب لها في خارطة المهرجانات العالمية
فالعرض الأول للفيلم كان في الدورة الثانية من مهرجان الجونة السينمائي في مصر ، المهرجان الوليد الذي بدأ كبيراً منذ انطلاقته، ولاقى عرضه إعجاب النقاد و الجمهور، كما يُحضر لعدة مشاركات قادمة ، وكان قد تمَّ تصوير الفيلم في منطقة (الزبداني) التابعة لريف دمشق وسط الدمار الذي طالها، ليوثق بمشاهده ما لاقته البلاد من هلاك إثر انفصام أبنائها، ويدعوهم للتواصل والتلاقي كي يستمروا على قيد الحياة