بعيداً عن جغرافيا الموت والدمار ، وهيمنة المؤسسات الرسمية ، يجهد الكثير من السينمائيين السوريين في الخارج لاستجواب الأحاسيس والآثار النفسية للإنسان السوري المحاصر بمآسي الحرب ، ويطرحون تساؤولاتهم المشروعة بِلُغاتهم السينمائية الخاصة ، مستقلين بخطوطهم ومنهجياتهم عن ذهنية المُنتِج الاستقطابية ، ساعين لتقديم سينما نقية قدر المستطاع ، سينما ترتكز على تشريح أفكار وحوائج السوريين وتشابكات واقعهم العبثي دون قيود الرقابة وأهواء الممولين. ويُحتَسب للعديد منهم نجاحهم بتقديم شرائط فريدة الرؤى والالتقاطات ، ووصولهم بها إلى أهم المهرجانات العالمية ، وإثراء أرشيف السينما السورية بمشاركات وجوائز قيّمة من الصعب تحقيقها دون شرطية تحرر اللغة السينمائية التي توفرها الصناعة المستقلة
ومن أحدث تلك النجاحات ، مشاركة المخرجة السورية سؤدد كعدان (1979) بفيلمها الروائي الطويل الأول “يوم أضعت ظلّي” (2018 ، 94 د) في مهرجان فينيسيا السينمائي في ايطاليا وهو أقدم مهرجان في العالم ، ضمن مسابقة (آفاق) ، بِدورته القادمة الخامسة و السبعين 29 آب/أغسطس – 10 أيلول/سبتمبر 2018 . المخرجة السورية المولودة في فرنسا، درست في المعهد العالي للفنون المسرحية – قسم النقد – في دمشق ، و تخرجت من معهد الدراسات المشهدية السمعي بصرية بجامعة (القديس يوسف) في بيروت ، أخرجت وأنتجت العديد من الأفلام القصيرة و الوثائقية (مدينتين وسجن 2008 ، سقف دمشق وحكايات الجنة 2010 ، خبز الحصار 2016 ، العتمة 2017 ، وغيرها) شاركت في مهرجانات عربية و عالمية وحصدت عدة جوائز
باكورتها في الروائي الطويل “يوم أضعت ظلّي” وهو فيلم سوري مستقل يحاكي الحرب السورية في عمق أوجاعها الإنسانية كان محور حديثنا معها :كل ما ترغب به (سنا) خلال الشتاء الأكثر برودة و قسوة في سوريا 2012 هو أسطوانة غاز لكي تستطيع أن تطبخ لابنها البالغ من عمره التسع سنوات. ما بين انقطاع الماء و الكهرباء وأزمة الغاز ، تصبح الحياة شبه مستحيلة. تخرج باحثة عن مكان تستطيع منه أن تشتري أسطوانة غاز ، فتجد نفسها في المنطقة المحاصرة ، ولا تستطيع العودة إلى بيتها. تضيع (سنا) في رحلة الثلاثة أيام في ضواحي دمشق لتكتشف أن الناس بدأت تفقد ظلالها خلال الحرب
السينما المستقلة الناشطة بعد الحرب ، قدمت سينمائيين سوريين إلى الواجهة ، أوجدوا لغات سينمائية جديدة ، منهم من صنع أفلامه في الخارج ، متحرراً من ظروف الحرب و صعوبات التصوير وقيود المؤسسة والموافقات. عن تلك التجارب وعوامل نجاحها وانتشارها خارجياً وقدرة السينما السورية المستقلة ؛ بتجاربها القليلة على خلق مساحات سينمائية أوسع وإغناء الإرث السينمائي السوري … حتى الآن : بالتأكيد عندما يمر الإنسان بحالة حرب ، تتغير كل قناعاته ، وعلاقاته الإنسانية ، ووجهة نظره من الحياة و الإنسان ، وحتى علاقته مع البلد أيضاً ، كل ذلك لا يمكن ألا يؤثر في طريقة المخرج /ة في روي الحكاية ، وفي لغته السينمائية وفي علاقة كاميرته مع الواقع. أفلامي قبل الحرب مختلفة ما بعدها. فالسؤال الأساسي الآن ، والهاجس الأساسي الذي يسيطر على أفلامي الآن مختلف كلياً عن قبل. أعتقد ان سبب نجاح السينما السورية المستقلة مؤخراً هو سيطرة رغبة ملحة على المخرجين بروي حكاية ما يحدث في سوريا بأي طريقة. الإحساس الملح بأن تروي ما يحدث ، بأن تعبر عن ألمك ، الآن في هذه اللحظة ، بدون انتظار الوسائل التقليدية للإنتاج ، أو حتى الموافقات ، خلقت كل هذه الأفلام. بالإضافة إلى أن الموضوع السوري جذب لفترة قصيرة من الزمن اهتمام المنح ، مما دعم السينما السورية المستقلة الجديدة بأن تنطلق
يأتي الفيلم بعد خبرة في صناعة الأفلام الوثائقية – بحالة الصدق والواقعية الخاصة بهذا النوع – قد تؤثر في مكون ورؤية صناعة الروائي الطويل ، وتتضاعف المسؤولية والصعوبات للحفاظ على الأصالة و الهوية السينمائية السورية حين يتم التصوير خارجاً ، وضمن معطيات انتاجية استغرقت رحلة 7 أعوام مضنية من البحث و المعاناة ، لتتكلل أخيراً بطاقم عمل جمع عدد من الفنانين السوريين و الفنيين المتعددي الجنسيات : معظم أفلامي الوثائقية يتناوب فيها الخيال والواقع ، حتى التحريك الأنيميشن. فكان من الطبيعي في فيلمي الأول أن يتماهى الأسلوب الواقعي الوثائقي في الفيلم ، مع الواقعية السحرية ، فالفيلم يعتمد باستثناء الممثلين الرئيسيين على ممثلين أول مرة يقفون أمام الكاميرا ؛ العديد منهم لاجئون في لبنان ، الطفل أحمد يعيش في مخيم شاتيلا. لا شيء يمكن أن ينقل حالة ما يحدث في سوريا سوى الوجوه الحقيقة لمن عانت الحرب ، بالإضافة إلى أن طريقتي في التعامل مع إدارة الممثل ، تعتمد دائماً على ترك عنصر المفاجأة والإرتجال ، وكأن المشهد لن ينتهي ، ولا يعتمد على السطور والأفعال الموجودة في المشهد. الممثلون الرائعون (سوسن أرشيد ، سامر اسماعيل ، أويس مخللاتي و ريهام قصار) كانوا جميعاً ضمن منطق اللعب في الأداء في الفيلم ، حتى الفريق التقني. المشهد لا ينتهي ولا يتوقف ، اللعب مستمر حتى لم يعد هنالك أسطر تقال ، أو أفعال لأدائها ، والحقيقة أن متعة العمل على الفيلم تنسيك عذاب وصعوبة سنوات طويلة لإنجازه. سبع سنوات طوال من سوريا إلى بيروت ، متنقلة ما بين فرنسا و أثنيا لإنجازه ، لكن تنسى كل شيء في لحظة العمل الإبداعي ، وخاصة عندما تصل إلى ما كنت تراه أو تُفاجَأ بشيء جديد مدهش يغني الفيلم. الصعوبة الأساسية في إنجاز الفيلم ، هو أن تنجز فيلماً عن سوريا خارج سوريا ، فكانت عملية البحث المتواصل في كل لبنان عن أماكن تشابه دمشق وريفها ، وللحفاظ على هوية الفيلم السورية ، كانت العمليات الفنية في الفيلم تمر على مشرف فني (كرم أبو عياش) الذي قام بالبحث عن كل التفاصيل مع الديكور ، الملابس ، والأماكن حتى تطابق الواقع السوري ، وخاصة أن الفريق متعدد الجنسيات ؛ فرنسي ، لبناني ، سوري ، ومؤخراً في عملية تصحيح الألوان يوناني
العرض الأول للفيلم في مهرجان “فينيسيا” المهرجان السينمائي الأقدم ، عن التقديم للمهرجان و قيمة المشاركة بهِ ، لاسيما بعد اختباره عام 2017 و الحصول على دعم تمويل من أحد أقسامه الخاصة بالسينما العربية ، وأمنية عرض الفيلم في سوريا : من المؤكد أنّني فخورة وسعيدة بأن الفيلم مشارك في المهرجان ، وخاصة أنَّه تم دعوتة مسبقاً من قبل سوق الانتاج المشترك في فنيس للبحث عن التمويل و موزعين ، فالمكان الطبيعي للفيلم في فنيس ، المهرجان الأقدم و الأكثر عراقة. الفيلم تمَّ أيضاً دعوته إلى مهرجانات مهمة أخرى ، و سيتم الإعلان عن المهرجانات التالية قريباً. أتمنى أن يُعرَض الفيلم في سوريا ؛ يوماً ما ، فالجمهور الأول لهذا الفيلم ، في كل لحظة ، منذ الكتابة ، حتى إنهائه كان الجمهور السوري المحلي
الأعمال القادمة ، مشروع فيلم روائي طويل بعنوان “نزوح” فكرة الفيلم وموعد انطلاق عمليات التصوير ، واستكمال تصوير الفيلم القصير “عزيزة” : فيلم “نزوح” هو نص فيلمي السينمائي القادم ، وقد حصل على جائزة (بومي) المعروفة ، والتي تمَّ الإعلان عنها في مهرجان برلين ، والحقيقة لقد حان وقت هذا الفيلم. لقد بدأت منذ فترة أرى صوره ، وأرى الممثلين ، وأفكر بمكان التصوير. الفيلم مختلف كلياً عن “يوم أضعت ظلّي” ويتحدث عن فترة عمرية مختلفة (المراهقة) ، والنهاية أكثر سعادة بقليل أما “عزيزة” فهو فيلم قصير صورته في لبنان مع الفنانين (عبد المنعم عمايري ، كاريس بشار) لقد انتهيت من تصويره الشهر الماضي ، وهو في عمليات بوست الإنتاج الآن. الفيلم ساخر بكوميديا سوداء عن لاجئ سوري في لبنان يرفض أن يدع زوجته تقود سيارته في شوارع لبنان خوفاً على السيارة ، فهي الشيء الوحيد المتبقي لديه من سوريا ، ومع درس القيادة الأول لزوجته يجنح الفيلم إلى الجنون ، جنون الحنين ، ورفض خسارة كل شيء. مازلت بانتظار تتمة التمويل لإكماله. كما هي حالة كل السينما المستقلة. لقد حان وقت العودة إليه مع انتهاء الفيلم
بعد عرضه العالمي الأول في مهرجان فينيسيا في ايطاليا ، سيشارك الفيلم في مهرجان “تورنتو” السينمائي في كندا بدورته الثالثة و الأربعين 6-16 أيلول/سبتمبر 2018 لينتقل بعدها إلى العرض العربي الأول للفيلم في مهرجان “الجونة” السينمائي بدورته الثانية 20-28 أيلول/سبتمبر 2018 بالإضافة إلى عدة مشاركات سيُعلن عنها لاحقاً
هو حراك سينمائي سوري مُبَشِر ، استقل بعمق ، وتماهى مع الانفتاح ، ليقدم جوهر السينما برؤىً سورية ، قد تتواشج لتقدم مدرسة سينمائية جديدة ، مدرسة سورية الهوية ، قادرة على الوصول للعالم أجمع