تشهد القلاع دوماً على حضارة مدنها … ففي حجارتها أحاديث وحكايات عن شعوبٍ تتالت أجيالٍ وأجيال ، عن حضارات تعاقبت لتفني الواحدة الأخرى أو لتغنيها، حكايات تاريخية هي أشبه بالأساطير خلوداً . القلاع هي الشاهد الشامخ على أن تلك المدينة هي صرح تاريخي نابض أبداً، هي حارسة التاريخ
وفي حلب ... لن نتكلم عن قلعتها الأثرية المعروفة، سنخصّبالذكر قلعتها الفنية التي هي بدورها حامية للفن ولكل ما هو أصيل. هو الفنان الكبير صباح فخري ، الشاهد عبر أعماله وحياته،كيف يبقى الطرب حاضراً في الروح، كما ( خمرة الحب ) المعتّقة في الخوابي
ولد صبحي أبو قوس في 2 ايار 1933 ضمن عائلة حلبية لأب مقرئومدرّسللقرآنالكريمومنشدصوفيّ،ولأمّمنأسرةدينيّةذات تقاليدفيالإنشادوحلقاتالذّكرالصّوفي ، والتحق في طفولته بالتّعليمبالمدرسةالقرآنيّةبحلبحيثتعلّممبادئاللّغة العربيّةوعلومالبيانوالتّجويدوالدّينالإسلامي حتى عام 1947 . وكان يحضر حلقات الذكر التي سمحت له بالتعرف الى كبار الموسيقيين كعمر البطش والشيخ بكري الكردي
مع ظهور موهبته بالغناء تعرّف صباح فخري بالملحن محمد رجب الذي اصطحبه في جولاته الفنية وأطلق عليه اسم محمد صباح … وقد لفت الأنظار إليه حيث عرض عليه سامي الشوا الانتقال الى مصر، إلا أن الشاعر والأديب الوطني فخري البارودي، مؤسس المعهد الشرقي الموسيقي عرض عليه البقاء بدمشق والانضمام إلى الإذاعة . وهذا ما رغب به الفنان الشاب، واستمرت علاقته وثيقة بهذا المناضل، الأمر الذي ربط كلمة فخري باسمه ليصبح صباح فخري
بدأ في عام 1948 بتسجيل عدة أغانٍ تراثية وأخرى مجددة التلحين للإذاعة من قبل بكريالكردي، مجديالعقيلي، ابراهيم جودت وعدنان أبو الشامات، ليعود بعدها إلى حلب لاستكمال تعليمه في المعهد العربي الإسلامي فحصل على شهادة التدريس وعمل مدرساً عدة أعوام
كان له الدور الكبير في افتتاح التلفزيون السوري عام 1960 حيث كرّس نفسه لتقديم الفن الأصيل، فقد كان مقتنعاً بأن للفن الراقي رسالة هادفة، وهذا ما ترجمه من خلال أعماله كمسلسل “الوادي الكبير” مع الفنانة وردة الجزائرية والبرنامج الديني أسماء الله الحسنى مع منى واصف وعبد الرحمن آل رشي ومشاركات قليلة في بعض الأفلام السينمائية كفيلم الصعاليك مع دريد لحام
بينما يعد البرنامج التلفزيوني “نغم الأمس” بحق أكبر عمل توثيقي لجميع أنواع المقامات الشرقية بصوته ، حيثأفردلكلّمقامموسيقيعدّةموشّحاتوقصائدوأدواروبعض القدودالحلبيّةوالمواويلوالأغانيالشّعبيّةالفلكلوريّة والمدائحالدّينيّة، وقامبتسجيلمايقربعنمائةوستّينمقطوعةمنالقوالبالغنائيّة العربيّةوبشرحمفصّللكلّتلكالقوالبقصدتثبيتهاوأرشفتهالتبقى راسخةفيأذهانالمستمعين،لذا فهو يعد حافظاً للتراث بكافة أشكاله
شغل صباح فخري منصب نقيب الفنانين فترة طويلة كما كان عضواً في مجلس الشعب لدورتين قدم فيها خدمات جليلة لدعم الفن والفنانين ، ويعد سفير الغناء العربي بجدارة، حيث باتت أعماله وخامة صوته تدّرس في الجامعات العالمية، ودخل موسوعةغينيس لغنائه عشر ساعات متواصلة بإحدى حفلاته بفنزويللا، فقد صدح صوته في معظم البلدان العربية والغربيةومنأبرزعروضهحفلأقامهبقاعة نوبلللسّلام فيالسّويد،وآخربقاعةقصرالمؤتمراتبباريسعام 1978 وقاعةمسرحالأمانديةبباريسأيضاعام 1985،وذلكفي افتتاحمهرجانالموسيقىالشّرقيّةبفرنسا،وفيقاعةبيتهوفنفي مدينةبونبألمانيا،إلىجانبإقامتهلعدّةحفلاتبمسرحمعهدالعالم العربيبباريس.كان متنفساً للحنين الكامن في صدور الجاليات العربية لبلدانهم الأم ، وحصد جوائز وأوسمة عربية وغربية لا حصر لها يأتي في مقدمتها وسام الاستحقاق السوري عام 2007
ما يميز صباح فخري تعامله مع كم كبير من الشعراء المعاصرين والملحنين عدا ما نهله من دوواين الشعر القديم ، ونذكر من الشعراء القدامى أبو نواس، المتنبي، جرير ، المعري، اسحق الموصلي، ابن الفارض وغيرهم، ومن المعاصرين فخري البارودي ، عمر أبو ريشة ، أنطوان شعراوي ، أحمد رامي ، ابراهيم طوقان ،إيليا ابو ماضي وغير هم وقد تجاوز عدد الشعراء المعاصرين الذين غنى لهم الخمسين شاعراً. أما الملحنين فقد بلغ عددهم أيضاً حوالي الخمسين ملحناً من جنسيات عربية مختلفة منهم ابراهيم جودت ،أحمد أبو الخليل قباني ، بكري الكردي ، سهيل عرفة ، حلمي بكر، زكريا أحمد ، صلاح الشرنوبي، عمار الشريعي، محمد فليفل وغيرهم دون أن ننسى الباقة الكبيرة من الأعمال التي لحّنها بنفسه
السوري المحب للفن الأصيل يأسره صوت صباح فخري أينما كان فهو
المنتشيبخمرة الحب اسقينيها، عيشة لا حب فيها … جدول لا ماء فيها
الحالم بذات القـوامالســـمهـريحاويالرضابالسكري
المتيّم باللؤلؤ المنضود في ثغرك الجميل
المنتظر من الحبيب … يبعتلو جواب ويطمني ولو انو عتاب ما تحرمني
العابد لسلطان الملاح يا عيني … يا ملك انت ملك
العاشق أبدأ للشام … ويا مال الشام يللا يا غالي، طال المطال يا حلوة تعالي
تاريخ سوريا المشرّف نراه ناصعاً في أعمال صباح فخري، فالقلاع البشرية إسوة ً بالقلاع الحجرية تبقى صامدة مهما غافلتها نائبات الزمان