الثمانينات… التغيير والفن والحصار

آراء خاص

تمرُّ الأيّامُ ويتغيّرُ كلّ شيء . ماتصِفُونَهُ اليومَ بالمُعجزةِ كانَ بسيطاً و عفَويّاً . تُتابِعُ ناريمان حديثَها مُتشبِّثةً بألبُومِ الصُّورِ وتمرّرُ إبهامها المَكسوَّ بالتّجاعيدِ على الصُّورِ وتقول : هذا الحُبُّ كُلّهُ لم ننتظِرهُ كمِنحةٍ أو نستَعِدَّ لهُ مُسبقاً، لم نَتوقّع مِنَ النِّسيانِ الحضُورَ يَوماً. تَفتَحُ أحَدَ الأدراجِ في خزانَةٍ خشبيّةٍ كبيرة وتُخرِجُ محْبسَ الشَّعرِ الخَاصّ بِوالدَتِها وبَعضَ الرّسائِلِ الخاصَّة بنعيم زوجِها وبعضَ الكاسيتاتِ القديمةِ التي لاتزالُ رائِحَةُ المِسكِ الأبيضِ تَفوحُ مِنها وتُشيرُ إلى أَحدِهِم وقد كُتِبَ عليهِ:  “مُطربةُ الأجيال ميَّادة الحنّاوي لأُغنية مش عوايدك” (كلمات أحمد حلمي وألحان بليغ حمدي ١٩٨٤) وآخرَ بعنوان “حبّينا واتحبّينا”  ١٩٨٥(لِـبليغ حمدي أيضاً)، وتُتابعُ ناريمان : رُبّما لا تَعملُ هذهِ الكاسيتاتْ لكنَّ السِّحرَ المَكنُونَ فيها يأخُذُني إلى كُلّ تَفاصِيلِ الثَّمانِينات، عِندَما بَدأتُ العَملَ على الآلةِ الكاتبةِ آنذاك فظروفُ تلكَ المرحلةِ كانَت تَدفعُنَا للعَملِ جميعاً، خاصّةً وَقَد رُزِقتُ بطِفليَ الثّاني وَكانَت دلال، أَرغَمَت الظّروفُ السّياسيةُ والاقتصاديّةُ والعسكريّةُ الجميعَ على التّقشُّف ،ماديَّاً وليسَ معنويَّاً ، كُنتَ السّنَدَ الكبير لنعيم وأولادي وتُشيرُ هُنا إِلى صُورَةٍ لِطفلِها مُؤيّد ذو الخمسِ سنوات وتُتمتِم، ها نحنُ ذا على دُرُوبِ كَنزِنا ،كَم أنتَ رائِعٌ ياكلارك (سامي كلارك مُغنّي شارة مُسلسَل الأطفال ،جزيرة الكنز ١٩٨٣) مازِلتُ أتَذكَّرُ سيلفر القُرصانْ وهَانز وجِيم والقُبطان سمُوليت وأندرسون وبوبي والجَمِيع، ألا تَرى أنا والنِّسيانُ أعداء، كُنتُ أُفضّلُ شخصيّةَ سيلفر على الجَميع لكنَّ مؤيّد لم يعلَم بذلِك ، أعتَقِدُ أنَّ أطفالَ الثّمانيناتِ حصَلُوا على فَترةٍ ذهبيّةِ من المُسلسلاتِ الخاصّةِ بهِم والتي لَن تَتكرّر. تتقَصَّدُ هذهِ المرَّةَ ناريمان الوُقوفَ على مجموعةِ من الصُّور تجمعُها بفَتياتٍ كثيِرات ، تُحاوِلُ وضعَ يدِها على صورةٍ لهَا كَي لاتَظهَرَ لباداتُ الكتِفِ الضّخْمة، لا أعرِفُ كيفَ ارتديتُ هذا، انظُر الى أقراطِ لمياء الطّوِيلةَ المُتدلّيَة على كتِفَيها والقَميصِ الكبيرِ المُزَركَشِ الذي تَرتدِيهِ وهذا البِنطالَ الواسِع المُزيّنِ بالسَّحَاباتِ الكثِيرة ، أتذكّرُ غُرفةَ لمياءَ المُمتلِئَةَ بِصورِ بروك شيلدز عارضةَ الأزياءِ الشَّهيرة وديمي مور المُمثّلة الرائِعة، كانت لمياء تُحاوِلُ أن تكونَ مثلَهُنّ، لكِنّ المَلابِسَ كانَت مُكلِفَةً جداً وكُنّا نضطَرُّ حينها أَن نَستعيرَ ملابِس بَعضِنا في المُناسَباتِ ونُقدِّمُ ملابِسَنا القديمةَ لِمَن يَحتاجُها، لا أعتَقِدُ أنَّ هُناكَ فترةً أسوَأ مرَّت على بَلدِنا إقتصادِيّاً كتِلكَ الفَترة، رغم أنَّ العالمَ كان يعيشُ في نَهضةٍ إقتِصاديَّةٍ كبيرة أثّرَت جِدّاً في مُوضَةِ الثّمانِينات ، التي لم نَتجَرّأ نَحنُ في سوريا على اقتِنائِها، إنظُر إنّهُ وسيم أخي كانَ محبُوبَ الفتياتِ وطالِباً جيّداً في كُليّةِ الحُقوقِ في جامِعَةِ دِمشق، يعمَلُ بعدَ الجامِعَةِ في محَلٍّ لبَيعِ العُطُور ، أهدانِي من رائِحةِ الأَفيُونِ عُلبةً جميلةً كانَ يقولُ لي إنّها مِن إيف سان لوران أشهرِ العُطُور ، أتَذكَّرُ جيِّداً رائِحةَ الكِيسِ الورقيِّ الذي وضَعهَا فيهِ ، كُنّا نَضعُ حاجيّاتِنا جَميعَها في أكياسٍ ورقيَّة ، لم تكُن البلاستيكيَّةُ المُزعِجةُ موجودةً وقتَها، بدأتِ الأُمورُ في مُنتصفِ الثّمانيناتِ بالتَّغيُّرِ التّدريجيّ ، فالحربُ في سوريا شِبهُ توقّفَت كما المُواجَهَةُ مع العَدوِّ الإسرائيليّ في لُبنَان ، كُنّا نستَمعُ مُطوّلاً إلى الرّاديو ، الأغاني الوطنيّةَ خُصُوصاً ونَشراتِ الأخبارِ المُتتالِية ، برزَت في تلكَ الفترةِ الأُغنيةَ المشهُورةَ للمُطربة اللبنانيَّة جوليا بطرُس “غابِت شمس الحقّ” ، لقَد أثَّرتْ الحياةُ السِّياسيّة في الفَنّ إِلى حدٍّ ما، وسيم أخي كانَ مُعجَبَاً بالفنَّان زياد الرّحبانِي ومُتابِعاً جيِّداً لِأعمالِهِ المَسرحيَّة خُصوصاً (شِي فاشِل ١٩٨٣) وما كانَ يُقدّمُهُ مِن ألحانٍ للسيِّدة فيروز ، ترَكَ وسيم أيضاً قَبلَ زوَاجِهِ عِدَّةَ كاسيتاتٍ فيها أغاني “بلاولاشي” و”شو هالإيّام” و “البوسطة” و “عايشة وحدا بلاك”، يشارِكُهُ الفَنّان جُوزيف صَقر، إِنَّ الإستِماعَ إلى هذَا النَّوعِ مِنَ المُوسيقا المَمزُوجَةِ بالإيقاعِ الغَربيّ كانَ شيئاً جدِيداً، وجَميلاً أيضاً. أَتذَكَّرُ عازار حبيب ومحمد جمال ورونزا وغسان صليبة و القطريب ( سلوى قطريب)، ملحم بركات ووليد توفيق وغيرهُم الكثير. تُحاوِلُ ناريمان النُّهوضَ لِتُحضِرَ ألبوماً آخَر مِن الصُّوَرِ وضعَتهُ على سطح التّلفازِ الخَشَبيّ القَديم، وتُشيرُ إلى قِطعَةِ قُماشٍ كبيرةً تُزيّنُ التّلفاز كانت قد صَنعَتْها بِنفْسِها وصَنَعَت غيْرها الكَثير ، وتقُولُ : لقد علَّمَتنِي أُمّي طَريقَةَ التَّطريزِ والرَّسمِ على القُمَاش، بِعتُ الكثِيرَ مِنهَا ، وتَروِي قِصّةَ المُشاجَرةِ مع زوجِها نعيم ذاتَ مرّةٍ عِندما انفَعَلَ أثناءَ مُتَابَعتِه مُباراةً لِكُرةِ القَدمِ بينَ الفَريقِ السُّوريّ والفريقِ العِراقِيّ في التَّصفياتِ النِّهائيّةِ لمُونديال ١٩٨٦ ، عندما خَرجَ مُنتَخبُنَا على يَدِ شقيقِهِ ، وتَسبَّبَت النَّتِيجةُ بمُشاجَرةٍ مع نعيم بَعدَمَا قَطَّعَ قِطْعَةَ قُماشٍ كُنتُ قَد انتَهيتُ للتوّ مِن حياكَتِهَا والتَّطريزِ عليْها . تذكَّرتُ أَنّي بَكَيتُ وبكَيتْ . كطِفلَةٍ صَغيرةٍ ونعيم حاوَلَ كثِيراً مُصَالحَتي والتَّخفِيفَ عنِّي ، إِلى أَن قَبِلتُ المُصَالَحَةَ بَعدَمَا عرضَ عليَّ اصطِحَابِي إلى السِّينما ، كُنا قَد حُرِمنَا مِنهَا لأَكثَرَ مِن سَنَةٍ ورُبَّما اثنَتَينْ ، لقَد كُنتُ مَحظُوظَةً جِدّاً ، شَاهَدنَا الفِيلمَ الكومِيديّ السُّوريّ (التّقرِير) ، لدُريد لحّام ورغدَة ومُنى واصِف ،(فيلمُ التّقرير . تأليف محمّد المَاغُوط ، إِخراج دُريد لحّام ، إِنتاج نادِر الأتاسِي ..يَحكِي الفِيلم قِصَّةَ مُوظَّفٍ حُكُومِيّ بصِفَةِ مُستَشارٍ قانُونيّ يُمَثِّلُ قِمَّةَ الإستِقَامَةِ والضَّميرِ والنَّزاهَةِ على غيرِ العادَة ،مُحاوِلاً استِخراجَ تَصَارِيحَ في إِحدى المُؤسّسَاتِ الحُكُوميَّة ) ، تَميَّزَت فترةُ الثَّمانِينَاتِ بمجمُوعَةٍ مِن الأفلامِ السُّوريَّةِ والتي حَصَلَ بعضُهَا على جَوائِزَ عالمِيَّة كالحُدُود و أَحلامُ المَدِينة. ومِنَ الأفلامِ الرَّائِجَةِ، المَصيَدَة، غابَة مِنَ الإسمَنت، راقِصة على الجِراح، سَاعِي البَرِيد ولَيالِي ابن آوى وغَيرَهَا . تَفتَحُ ناريمان الألبومَ الجَديد مُتعَبَةً وتَبدُو عَلَاماتُ الإرهاقِ واضِحَةً فِي حَرَكةِ يَدَيهَا، قائِلةً: صحيحٌ أنَّ الألوانَ أَعطَت طَابِعَ البَهجَةِ للصّور لكنَّهَا فَضحَتْ أُمُورَ أُخرَى، حيثُ يَختبئُ وراءَ الأبيَضِ والأسوَدِ أسرارُ كثيِرة، على ملابِسِنا بدَأَت تَظهَرُ العَلامَاتُ التِّجارِيَّة والمَاركاتُ بلُوغُوهَاتِهَا الكَبيرة، خَاصَّةً الأزياءُ المُستَوحاةُ مِنَ اللُّوكِ العَسكَرِيّ، ورَبطاتُ العُنُقِ  الكَبيرةُ إِضَافةً إلى القُفَّازاتِ بدونِ أَصابِع، لَم تَعُد الصُّورُ كَمَا السَّابِقُ صَعبَةَ المَنال، لَقَد أصبَحَ بإِمكَانِ الجَميعِ شِراءُ الكامِيراتِ الصَّغِيرة والعَمَلَ على تَوثيقِ ذِكرَياتِهِ. جاءَت القَنَواتُ التِّلفِزيونيَّة والبَرامجُ الكَثيرَة مَع هذِهِ التَّغيُّراتِ في نِهايَةِ الثَّمَانينات وأصبَحنَا نَسمَعُ نَمَطاً غِنَائيَّاً مُختَلِفاً كُليَّاً عمَّا سَبَقَهُ مِمَّا يأتِينَا مِن مِصْر ولُبنان والخلِيج وكلّ مكانٍ في هذا العالَم. التَّغييرُ يَجتَاحُ كُلَّ شَيْء

Lascia un commento

Il tuo indirizzo email non sarà pubblicato. I campi obbligatori sono contrassegnati *